هناك انطباع بأنّ رئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط «يحركش» اليوم بـ»وكر الدبايبر»، أو هو يضع نفسه في «بوز المدفع». فلا أحد من أركان السطة تجرّأ في السنوات الأخيرة على استفزاز «حزب الله» مباشرة، من خلال الطعن بأحد مبرِّراته الأساسية لحمل السلاح والاحتفاظ بقرار الحرب والسلم، أي لبنانية مزارع شبعا... فيما يخوض جنبلاط حرباً لا هوادة فيها ولا مهادنة مع الرئيس بشّار الأسد. وثمة من يسأله: من هنا، أنت ذاهب... إلى أين؟
 

الخائفون على جنبلاط لا يتردّدون في الهمس أنّ «بالهم مشغول» عليه. فهو يواجه «حزب الله» في أشدّ لحظاته إحراجاً، نتيجة ما يتعرّض له - هو وإيران- من ضغوط أميركية وغير أميركية.

وبالتأكيد، لم يتوقّع «الحزب» أن يأتيه الضغط أيضاً من أي طرف لبناني، بالتزامن. ومن عادة جنبلاط أن يحافظ على حدّ متوازنٍ من العلاقة معه، لا تصل إلى حدّ التعاون أو التحالف… لكنها لا تبلغ الصدام.

لكنّ جنبلاط نفسه لا يبدو قلقاً من تداعيات هذه المواجهة. هو يعرف حدودَها، وحدودَه، وحدودَ «الحزب». ويدرك أن ضمانته و«صندوق أسراره» هو الصديق «أبو مصطفى» جاهز لتبريد المرجل كلما قارب الانفجار.

لذلك، نجح لقاء الوساطة في عين التينة في منع الأسوأ، على رغم من أن المشكلة بقيت تراوح في مكانها. على الأرجح، هناك تنظيم للخلاف بين جنبلاط و«الحزب» لا أكثر. والاتصالات جارية لتدبير لقاء ثانٍ، يجمع الطرفين من دون «طيف» الرئيس نبيه بري، في مركز الحزب «التقدمي الاشتراكي» ربما.

الأهم، بالنسبة إلى جنبلاط، هو نزع الفكرة التي خطرت للبعض، ومفادها أنه يصعِّد في مسألة مزارع شبعا نتيجة «كلمة سرّ» تلقاها من الأميركيين بعد اللقاءات مع وزير الخارجية مايك بومبيو ومساعده ديفيد ساترفيلد أو سواهما. وتالياً، أنه يلاقي التحوّلات المحتملة في الشرق الأوسط، والتي تتعرّض فيها إيران و«الحزب» لضغوط شرسة.

الأوساط القريبة من جنبلاط تصف هذه الفكرة بالسخيفة. وتضيف: «هو أساساً مستاء من السياسة التي يعتمدها الأميركيون في سوريا. فهم تلكأوا عن دعم المعارضة الوطنية السورية لإسقاط الأسد وأجهضوا حراكها. كما أن سلوكهم إزاء «جبهة النصرة» يدعو إلى التساؤل.

حتى إن جنبلاط مستاء من الروس، أصدقائه التقليديين. فهم يقدِّمون إليه التطمينات بالعلاقة الطيبة والوقوف معه، لكنهم لا يضطلعون بأي دور فعلي لمنع نظام الأسد من ممارسة الضغوط عليه من خلال حلفائه في لبنان.

لذلك، هو وجّه إشارة قاسية مباشرة إلى موسكو عندما قال إنه «يملك معلومات من ديبلوماسي روسي مفادها أن الأسد أرسل رسالة إلى بنيامين نتنياهو في العام 2012، قال فيها: «إذا تقسّمت سوريا، فالدويلة العلوية لن تكون خطراً على إسرائيل». وكان الجواب الإسرائيلي: «نريد رفاة الجاسوس كوهين». وأرفق جنبلاط ذلك بالقول: «الأسد أكبر كذّاب».

طبعاً، هذه الإشارة أحرجت موسكو جداً، وخصوصاً «الديبلوماسي الروسي» المقصود، المعروف مَن هو على الأرجح.

كل هذا الضجيج الجنبلاطي و«تكبير الحجارة» يُراد أن يُصيبا مكاناً محدداً: القصة ليست في مزارع شبعا… إنها في «مزارع الشوف».

المطّلعون على موقف جنبلاط يقولون: «وصل به الاستياء حدوداً عالية جداً نتيجة ما يتعرّض له داخل «بيته» الدرزي، على رغم من المواقف المهادنة والمراعاة لـ«حزب الله» التي أظهرها في كل المراحل السابقة. فقد عمد «الحزب» إلى تقوية حلفائه الدروز، على حسابه، وفي شكل استفزازي.

فالعراضات التي جرت في المختارة، قبيل حادثة الجاهلية، كانت مدعومة من «الحزب». كما أن لقاء الجاهلية الذي تضمّن هجمات قاسية على جنبلاط كان أيضاً برعايته. والحملات الإعلامية المنظمة ضد المختارة يشنها المحسوبون على «الحزب» أيضاً. مع أن جنبلاط بقي دائماً يحرص على علاقة طيبة بينه وبين «الحزب»، وهو لم يتعرّض لـ«الحزب» بأي انتقاد أو إساءة طوال السنوات الأخيرة.

ويكشف هؤلاء أن جزءاً من المآخذ الاشتراكية يعود إلى أن جنبلاط أبدى منذ زمن بعيد عدم ممانعته لقاء الأمين العام لـ«الحزب» السيد حسن نصرالله من أجل التفاهم على بعض المسائل مباشرة، لكنه لم يلقَ التجاوب في الجانب المقابل.

زاد في منسوب التوتر موقف «الحزب» من مسألة معمل فتوش للاسمنت في عين دارة. فالتلوث الذي يتسبب به المعمل يضرب معظم عاليه والشوف ويشكل خطراً على محمية أرز الشوف. ويقول بعض القريبين من جنبلاط: «هناك مناطق شاسعة جرداء وغير مأهولة على الحدود اللبنانية - السورية، فلماذا لا يُنشأ المعمل هناك؟».

والى ذلك، يضيف المطلعون، ليس واضحاً مَن هم الشركاء في هذا المعمل، بين لبنان وسوريا. وهؤلاء سيجْنون الأموال على حساب الناس في الشوف وعاليه والمتن الأعلى. وقد تلقّى فتوش دعماً مطلقاً من «الحزب»، بما يشكل تحدياً للأهالي.

والى ذلك أيضاً، تستاء المختارة من ازدواجية التعاطي التي يعتمدها «الحزب» في ملف مزارع شبعا. فقد سرّب موقع «الأنباء» الكلام الذي سبق أن قاله الرئيس ميشال عون في هذا الشأن، نموذجاً لمواقف عدّة صدرت سابقاً، وتعتبر المزارع غير لبنانية، تماماً كما هو موقف جنبلاط. فلماذا يتم إطلاق صفة الخيانة على المختارة، ويتم تجاهل جميع الآخرين، عندما يكونون في عداد الحلفاء؟

إلى أين يتجه جنبلاط؟

المطلعون يقولون: «المواجهة المفتوحة حول مزارع شبعا جعلته أقوى، لا درزياً فحسب، بل أيضاً مسيحياً وسنّياً وشيعياً. فالجميع يتفهمون أن لبنان لا يتحمل أن يكون مادةً أو ساحة نزاع، وأن يذهب «فَرْق عُملة» بين القوى الإقليمية. وتجربة «أبو أياد» الذي كان يعتبر أن تحرير فلسطين يمرّ من جونيه كانت مدمّرة للفلسطينيين ولبنان.

جنبلاط عائدٌ من زيارته الباريسية قبل نهاية الأسبوع على الأرجح، وسيحرص على طمأنة الجميع إلى أنه لا يراهن على أي ضغط خارجي يستهدف «الحزب». ولكن، إلى أن يحصل على تطمينات بوقف «التلاعب» داخل الساحة الدرزية، فهو لن يتراجع عن مواقفه الأخيرة: سيقصف من مزارع شبعا على «مزارع الشوف»… سياسياً طبعاً.

فأمن الجبل فوق كل اعتبار. وضمان الأمن موزَّع بين بري واللقاءات الثنائية المنتظرة بين كوادر «الاشتراكي» و«حزب الله». والجميع يعرف أن البلد لا يتحمّل 7 أيار جديدة.