فيما طرحت الموازنة على طاولة مجلس الوزراء الذي اجتمع في القصر الجمهوري أمس، كان الشارع يغلي، فنفّذ العسكريون المتقاعدون منذ الخامسة صباحاً سلسلة اعتصامات وانطلقوا من ساحة رياض الصلح في اتجاه اكثر من نقطة، فمنهم من توجّه الى مصرف لبنان في شارع الحمرا، وآخرون الى وزارة المال وقسم الى مرفأ بيروت حيث أقفلوا كل مداخله.

وكان لافتاً التطمين الذي أعلنه وزير المال علي حسن خليل بتأكيده ان «لا مَسّ بالمكتسبات الحقيقية لأي قطاع من القطاعات العامة». علماً انه اكد قبل جلسة مجلس الوزراء «ان لا مسّ بالأجور ولا ضرائب جديدة ولا زيادة على القيمة المضافة في الموازنة، وما يتم تداوله اليوم عن استهداف المؤسسة العسكرية لا اساس له من الصحة».

ولكن على رغم من تطمينات وزير المال، فإنّ التحركات والاعتراضات ستستمر، بحيث أعلن اتحاد النقابات العمالية في المؤسسات العامة والمصالح المستقلة الإضراب العام والإقفال التام في كل المؤسسات العامة والمصالح المستقلة يومي الخميس والجمعة 2 و3 أيار 2019، إضافةً إلى السبت في 4 منه للمؤسسات التي تعمل في هذا اليوم.

وكانت قد حصلت سلسلة تحركات أمس، حيث واصَل مياومو الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي في طرابلس إضرابهم الذي بدأوه منذ أسبوع، ونفذ موظفو مستشفى صيدا الحكومي اعتصاماً أمام باحة مدخل الطوارئ تحت عنوان «إضراب حتى اشعار آخر»، وامتنعوا عن استقبال المرضى. والتزم موظفو هيئة ادارة السير والآليّات والمركبات الاضراب في كل فروع النافعة، مطالبين الحكومة بإقرار سلسلة الرتب والرواتب أسوة ببقية المؤسسات.

فيما اعلنت لجنة الأساتذة المتعاقدين بالساعة في الجامعة اللبنانية الإضراب التحذيري الشامل والأخير الاربعاء المقبل في الثامن من الجاري، والمفتوح ابتداء من الخامس عشر منه، وذلك في كل فروع الجامعة، وكلياتها، بالتزامن مع الاعتصامات المكثفة، ومقاطعة الامتحانات بما فيها وضع الأسئلة، والمراقبة، وتصحيح المسابقات والاستمرار في الإضراب إلى حين رفع الملف من مجلس الجامعة إلى وزير التربية.

وقائع من الجلسة

وفي وقائع الجلسة علمت «الجمهورية» أنّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بادر في مستهلّها الى الطلب من الوزراء الإسراع في بت مشروع الموازنة والانتهاء من مناقشته حتى لو كان هناك تباين في الآراء، ووافقه رئيس الحكومة سعد الحريري الرأي قائلاً: «أردناها موازنة تقشفية وعلينا المحافظة على هذا التوصيف، وتأمين الانفاق الاستثماري انطلاقاً ممّا استطعنا الحصول عليه من مؤتمر «سيدر» وهو 11,3 مليار دولار، ما سيحرّك القطاعات الإنتاجية».

وأضاف: «إقرار الموازنة عامل إيجابي والإجراءات ستطاول كافة المستويات... لا أحد في وارد تخفيض رواتب العسكريين والمتقاعدين، لكن هناك بعض الإجراءات ستشمل الجميع موظفين وعسكريين إذا أردنا الحفاظ على منعة الاقتصاد، خصوصاً انّ المجتمع الدولي يتابع عملنا بدقة».

ثم كانت مطالعة طويلة لوزير الاقتصاد منصور بطيش لم تمر «مرور الكرام»، وتحوّلت مناظرة مع وزير المال الذي دافع بقوة عن أرقام موازنته شارحاً للنقاط التي أثارها وزير الاقتصاد، الذي سرعان ما تراجع عن أجزاء من مطالعته بعد شرح خليل الذي تَوسّع في عرض الموازنة قائلاً: «نحن منفتحون لسماع كل الاقتراحات، وأنا سأخاطب اللبنانيين بصراحة، النمو الفعلي عام 2018 كان 0,94% لقد توقعناه أكثر لكن الظروف السياسية لم تساعدنا، ونحن نتطلع هذه السنة لنمو بنسبة 1,8%».

وعرض خليل لأرقام الدين العام قائلاً: «خدمة الدين عام 2018 كانت 8214 مليار ليرة، 5187 منها بالعملة اللبنانية، و3027 مليار ليرة بالعملة الاجنبية».

وعرض لتوزيع الموازنة كالآتي: 35% رواتب وأجور ومخصصات وتعويضات ومتمماتها، 35,1% خدمة الدين، 10,6% عجز الكهرباء 8,9% نفقات استثمارية والبقية نفقات جارية.

ثم عرضَ لأسباب عدم تحقيق التوقعات التي وضعت في موازنة العام 2018، بسبب الخلافات السياسية والانتخابات»، وأضاف: لا يجب ان يتجاوز عجزنا هذا العام الـ 7%».

وفي بند المتقاعدين لفتَ وزير المال الى انّ معاشات التقاعد تبلغ 3328 مليار ليرة وعددهم 103,218 أشخاص، بينهم معلمون واساتذة جامعيون واسلاك عسكرية وقضاة سابقون واسرى محررون.

وعن التدبير الرقم 3 أكد خليل أنه «لم يرد في الموازنة وليس هناك أي اشارة له، فهذا الامر متعلق بالقيادة العسكرية». وأبدى استعداده للبحث في كل الترتيبات التي تخص المتقاعدين مع وزير الدفاع.

وعَدّد خليل العناصر التي تؤمن التوازن داخل مشروع الموازنة:

1 - خفض النفقات
2 - زيادة الواردات
3 - تحديد عجز الكهرباء

4 - المساهمة في معالجة خدمة الدين
5 - إصلاح بعض الثغرات في نظام الاجور والرواتب والتعويضات
6 - المواد التحفيزية

7 - المواد المتعلقة بالتعاقد والتوظيفات
8 - فكرة متعلقة بطريقة التعاطي مع اقتراح تجميد نسبة من الرواتب ليست جزءاً من الموازنة

وعن التخفيضات، شرح وزير المال كل ما ستشمله بنسَب تتراوح بين 10 و50%.

وتوالت مداخلات الوزراء الذين أثار عدد منهم موضوع الاملاك البحرية، فتدخل وزير الاشغال يوسف فنيانوس كاشفاً أنه تم تسجيل 1068 مخالفة وهناك 178 قدّموا أوراق التسوية بعد صدور المراسيم التطبيقية للقانون الصادر في 18/12/2018، وصدرت أوامر الدفع التي قدّرت بـ 130 مليار ليرة.

وطالب وزير الاتصالات محمد شقير بمكافحة الارهاب وضبط المؤسسات غير الشرعية والتهريب، ودعا الى عدم استهداف المصارف بالاجراءات لتفادي خطر هروب الودائع.

وكان لافتاً ما طلبه رئيس الجمهورية من الوزراء وهو الاستعداد لوضع هيكليات جديدة لإداراتهم ووزاراتهم، وكان لافتاً ايضاً مداخلة طويلة لوزير الخارجية جبران باسيل قال فيها: «نحن أمام فرصة استثنائية لإنجاز موازنة غير عادية، وعلينا عدم اعتماد خطابين ولغتين للمزايدة، لأنه في هذا الجو لن نستطيع إقرار موازنة. إذا كنّا ملتزمين الذهاب الى موازنة تقشّف، فيجب أن تكون في حدود التكامل في الاجراءات سلّة واحدة وإلّا سيتعذّر علينا المضي في اتخاذ الاجراءات، وعلى جميع الاطراف ان تتحمّل المسؤولية خصوصاً في ما يتعلق بالدين العام وحجم الدولة والكهرباء والهدر وزيادة المداخيل... كلها قرارات يجب ان تتخذ».

 

ودعا الوزير محمد فنيش الى مقاربة الموازنة «بطريقة نقدية شاملة»، وان يُصار الى النظر في خدمة الدين العام. وقال: «على الجميع تحمّل المسؤولية، وآن الأوان للتنسيق بين السياسة النقدية والسياسات المالية». وتحدث عن الاستيراد عبر الحدود وعن الشفافية في التلزيمات.

بدورها، شددت الوزيرة ريا الحسن على «ضرورة تشجيع المستثمرين واعتماد الدينامية في الموازنة».

أبو سليمان

وقال وزير العمل كميل ابو سليمان لـ«الجمهورية»: «نريد موازنة جريئة ومتوازنة وواقعية ولا يجب طلب التضحيات من فريق واحد، فالامور يجب ان تعالج بسلة متكاملة بين كل شرائح المجتمع وعدم التصويب على المصارف لأنها الدائنة ونحن المدينون، والدائن لديه صدقية اكثر من المديون المفلس. علينا البدء بالاصلاح من أنفسنا، وضبط وضعنا ضمن مبادئ المحاسبة، والعبرة بالتنفيذ... ولدى «القوات» ملاحظات واقتراحات سنقدّمها في وقتها عند البدء في المناقشة التقنية لكل بنود الموازنة».

الحريري متفائل

ونقل ليل أمس عن الحريري ارتياحه الى سير جلسة مجلس الوزراء، وقالت اوساطه لـ«الجمهورية» انّ «الأجواء التي تَجلّت في الجلسة توحي بوجود قرار للبت سريعاً بالموازنة، ولعل التفاهم على بدء جلسات الحكومة من غد الأربعاء (اليوم) رغم كونه عيد العمل يبشّر بالخير، فالحكومة تحمل اسم «الى العمل».

وأضافت هذه الأوساط أنه إذا بقيت المناقشات جدية بالنحو الذي ظهر أمس «يمكننا الإنتهاء منها قبل نهاية الأسبوع الجاري، وإن تم ذلك يستحق النظر اليه على انه إنجاز مهم جداً، وهو يعبّر عن مسار يمكن ان ينتهي الى نتائج إيجابية يتمنّاها الجميع، وما علينا سوى ترجمة هذا القرار الى واقع».

ولم تَشأ هذه الأوساط التعليق على تظاهرات العسكريين من ضباط وجنود ورتباء متقاعدين، وقالت: «سيأتي الوقت لتوضيح كل المواقف من دون الدخول في اي تفاصيل أخرى».

موازنة «كيف ما كان» وأخرى «متوازنة»

وقالت مصادر وزارية قريبة من كتلة «لبنان القوي» لـ«الجمهورية» ان المناقشات في الجلسة الحكومية أمس «لم تكن في المستوى المطلوب، واذا بقيت الأجواء على الشكل الذي حضرنا نموذجاً منه فقد لا نصل الى مخارج نهائية في وقت قريب».

واضافت انّ ما طرحه باسيل في الجلسة «يجب ان يؤخذ في الاعتبار وعلى محمل الجد. فمن دون الدخول في كثير من التفاصيل، لفتَ الى ضرورة وقف استغلال بعض المقترحات الصعبة والتي قيل انها غير شعبوية من اجل المزايدات السياسية، كأن يعبّر بعض الوزراء في مجلس الوزراء عن شيء وينتقل الى موقع آخر ليتحدث امام الشاشات والجماهير عن شيء آخر».

وعمّن قصدَ باسيل بقوله، اكتفت هذه المصادر بالقول: «انهم يعرفون أنفسهم». ولفتت الى انّ النقاش أمس كشفَ وجود نهجين عريضين لمقاربة ملفات الموازنة وبعض القرارات الصعبة المطلوبة.

وأضافت: «لقد ظهر واضحاً انّ هناك من يريد موازنة «كيف ما كان»، وآخرون يريدون موازنة «متوازنة ومدروسة».

واستغربت هذه الأوساط رَدّ وزير المال ونَفيه تصفير بعض الموازنات الخاصة بمشاريع استثمارية وإنمائية، كمثل ميناء جونية السياحي وأوتوستراد القديسين في البترون، في ما اعتبر رداً على تصريح لباسيل عَبّر فيه عن رفضه ما هو مطروح.

وقالت: «يمكن لمَن يقرأ ما هو مطروح في مشروع الموازنة الذي تم تعميمه أن يرى ذلك واضحاً. وهو أمر لا يقبل الجدل او التأويل. بالإضافة الى القول «عن تأجيل البحث في أوتوستراد القديسين مثلاً الى العام 2021».

إرتدادات

على انّ الجلسة ما ان رفعت حتى كانت لها ارتدادات استمرت على اكثر من خط، إذ سجّل توتر و«تويترات» سجالية بين وزير المال وكل من باسيل وبطيش، بدأ مع تغريدة باسيل التي شدّد فيها على ان يكون مشروعا ميناء جونية السياحي و«طريق القديسين» في صلب الموازنة، ملوّحاً بأن لا تقرّ موازنة من دونهما.

وليلاً، غرّد وزير المال الآتي: «كنت أود أن لا أدخل في سجالات قبل مناقشة أرقام الموازنة، لكن ولأنّ الزميل منصور بطيش قد وزّع مداخلته معتبراً أنها في مقابل مشروع الموازنة وتعليقاً عليها، فإني أردّه إلى ما شرحته مُفنّداً بالتفصيل كل البنود الواردة.‏ لكن الأهم وما يجب أن يعرفه الرأي العام أنّ اقتراح الوزير بطيش الأساسي هو فرض ضريبة إضافية ٣٪ على كل المستوردات الإستهلاكية، والتي كانت موضع رفض واضح من قبلي. وللكلام تتمة».

الشجرة المليون

من جهة ثانية، شدّد عون على ضرورة الحفاظ على «ثالوت العوالم الانسانية والحيوانية والنباتية» وحمايته، معتبراً «حفلة غرس الشجرة المليون» التي أقيمت بعد ظهر أمس في القصر الجمهوري، بمثابة عيد للشجرة في لبنان. وشَجّع عون على «ضرورة التفكير لا بزرع الاشجار فحسب، بل بسبل بقائها ورَيّها وحمايتها».

مدبولي في بيروت

على صعيد آخر، وفي زيارة هي الأولى من نوعها، يصل رئيس الحكومة المصرية الدكتور مصطفى مدبولي الى بيروت مساء اليوم في زيارة رسمية تستمر ثلاثة أيام، ويلتقي خلالها عون ناقلاً إليه رسالة خاصة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. ثم يلتقي لاحقاً كلّاً من رئيس المجلس النيابي نبيه بري والحريري، ويترأس الجانب المصري في اجتماعات اللجنة العليا المصرية ـ اللبنانية التي ستبدأ غداً، وتشهد توقيع عدد من الاتفاقيات التي تنظّم العلاقات بين لبنان ومصر في مجالات عدة.