ماذا يفعل العراق الإيراني وإيران العراقية، معا، إذا خرجت لهما من بين الأنقاض داعش جديدة بنسخة محسنة منقّحة خالية من الذبح بالسكاكين، وبخطاب جديد مغاير لخطاب الخلافة الإسلامية السابق.
 

للأميركيين أساليبُهم الخاصة الملتوية في تسريب تهديداتهم لمن يريدون منه أن يستكشف الخطط المعدة للانتقام منه إن هو أصبح تهديدا، أو أداة بأيدي آخرين يُهددون المصالح الأميركية التي يُقدرون أهميتها وخطورة المساس بها، دون غيرهم.

ومن تلك التسريبات الأميركية المبطنة ما نشرته مجلة “فورن بوليسي” حول انسحاب القوات الأميركية من العراق، مُوضحة أن ذلك الانسحاب سيرهن مستقبل العراق السياسي لإيران.

وشددت المجلة على أن “معظم الدول المنضوية تحت مظلة التحالف الدولي قد تنسحب من العراق إذا خرجت القوات الأميركية، وهذا يعني خسارة قوات الأمن العراقية الدعم والتدريب والغطاء الجوي اللازم لاستمرار زخم العمليات ضد تنظيم داعش الذي نشط (مؤخرا) في بعض المناطق”.

ثم فصلت المجلة تهديدَها المدهون بالسمن والعسل فقالت “إن ذلك لا يبشر بالخير لدولة العراق”. ثم ذكّرت قراءَها العراقيين، بشكل خاص، بأن “العام الماضي شهد قيام تنظيم داعش بهجمات في مناطق نائية من البلاد، ومؤخرا على مشارف المدن، مثل بغداد”.

لو اضطرت أميركا لمغادرة العراق ألن يكون ممكنا ومنتظرا منها ومن حليفاتها التعجيل بتوريط النظام الإيراني في العراق وسوريا بحرب عصابات، من نوع جديد، لا يَحتمل أكلافها العسكرية والسياسية والاقتصادية الباهظة

وأضافت إلى ذلك قولها “إن غالبية المقاتلين والمؤيدين لتنظيم داعش هم عراقيون، وهذا يمثل تحديا كبيرا للحكومة، لأنهم ليسوا أجانب ليسهل طردهم”. ويأتي هذا تعقيبا أميركيا غير مباشر على محاولة لجنة الأمن والدفاع بمجلس النواب العراقي تشريع قانون إخراج القوات الأجنبية من البلاد.

والظاهر أن الرئيس برهم صالح كان الأسرع والأكثر نباهة من غيره من حكام العراق. حيث التقط الإشارة وحللها وفهم ما وراء سطورها، ليرد عليها برسالة جوابية ناعمة أدلى بها لمحرر الشؤون الدولية في صحيفة “واشنطن بوست”، مفادها “أن العراق يحتاج لمساعدة نشيطة من واشنطن في المرحلة المقبلة، طالبا إرجاء سحب القوات الأميركية من العراق”.

وتحدث الرئيس برهم، بإسهاب، عن الحاجة إلى “محاربة ثقافة الفساد الراسخة، وفشل الحكومة في توفير الخدمات العامة الأساسية، مثل المياه والكهرباء، والتحدي المتمثل في منع عودة تنظيم داعش”. واعترف بأن “العراقيين ينزلون، باستمرار، إلى الشوارع للتظاهر احتجاجا على تردي الأوضاع”.

وبعيدا عن اللف والدوران فإن دواعي الرسالة الأميركية الواردة والرسالة العراقية الصادرة هي زيارة حسن روحاني الأخيرة التي أزعجت الإدارة الأميركية المنهمكة في تضييق الخناق على النظام الإيراني.

لذلك يقول الرئيس برهم للأميركان مُذكّرا، “إن للعراق مصلحة في العلاقة مع إيران التي تشترك معه بحدود طويلة يسهل اختراقُها”، مشددا على أن “القوات الأميركية في العراق ليست موجودة لمراقبة أنشطة إيران”، “بل لمحاربة داعش”.

وداعيا الأميركيين إلى “ممارسة دور نشيط في صياغة مستقبل أفضل في العراق من خلال الاستثمار والتعليم والمساعدات الإنمائية”. ثم يختم رسالته طالبا إرجاء موعد سحب القوات الأميركية من العراق، مؤكدا أن “الولايات المتحدة تستطيع مساعدة العراق، ونحن نستطيع مساعدة أميركا”.

ورئيس الوزراء، عادل عبدالمهدي، من جانبه لم يُقصّر في ملاطفة الأميركان وتهدئة خواطرهم، مع استمراره في سياسة ترضية الإيرانيين، آملا أن يُبعد شبح الانسحاب العسكري الأميركي الذي لا يريده ولا يتمناه. وهنا يأتي السؤال الحرج. هل يملك الرئيسان (الناعمان الملاطفان) قدرا كافيا من القوة والقدرة على منع البرلمان من تشريع القانون المنتظر؟

هذا شيء. وشيء آخر. لو مضى المعسكر الإيراني العراقي في خططه ونجح، حقيقة، في طرد تلك القوات، ألن يُصبح العراق إقطاعية مغلقة ملحقة بإيران وحدها، مع ما سيتبع ذلك وينتج عنه من إحداث شق عميق في جدار العقوبات الأميركية، وهو ما لن تقبله إدارة الرئيس دونالد ترامب ولن تتساهل فيه، الأمر الذي سيُدخل الدولة العراقية في حالة قطيعة كاملة مع أميركا، وهي التي لا تستطيع أن تستغني عن “الدعم والتدريب والغطاء الجوي اللازم لاستمرار زخم العمليات ضد تنظيم داعش الذي نشط (مؤخرا) في بعض المناطق؟”.

دواعي الرسالة الأميركية الواردة والرسالة العراقية الصادرة هي زيارة حسن روحاني الأخيرة التي أزعجت الإدارة الأميركية المنهمكة في تضييق الخناق على النظام الإيراني

ثم ماذا سيكون عليه الحال لو فرضت أميركا وحليفاتها الأوروبيات على العراق عقوبات مشابهة لعقوباتها على إيران؟ لا يشك أحد في جدية أميركا والعالم كله من الخلاص من النسخة الرثة السابقة من داعش، وتصفية أذيالها المتناثرة في المنطقة والعالم بعد أن انتهى دورها وأصبحت عالة لا تُحتمل.

ولكن، ماذا يفعل العراق الإيراني وإيران العراقية، معا، إذا خرجت لهما من بين الأنقاض داعش بنسخة جديدة محسَّنة منقَّحة خالية من الذبح بالسكاكين، وبخطاب جديد مغاير لخطاب الخلافة الإسلامية السابق، ومن دون حكاية الجهاد ضد المغضوب عليهم والضالين، وليس لها كيان قائم على أرض محددة، وبوجوه عراقية وسورية شابة تُلون نفسها بألوان الحميّة الوطنية ومقاومة الاحتلال، وأكثر عقلانية وخبرة قتالية وصلابة؟

خصوصا وأن سلوك النظام الإيراني الإرهابي الطائفي الاستغلالي الاستبدادي الإفسادي الاستعلائي في العراق وسوريا، مُرفقا بفساد وكلائه العراقيين واللبنانيين والسوريين واليمنيين، وجرائمهم وتجاوزاتهم التي لم تعد تُحتمل، أصبح بيئة أكثر ملاءمة لإنبات أنواع جديدة مبتكرة من العنف والإرهاب المقابل.

ولو افترضنا أن أميركا وحليفاتها لم تنخرط، عمليا، في تغذية النسخة المعدلة من داعش بالمال والسلاح والرجال والمعلومات، أليس واردا أن تُغمض عيونها عنها باعتبارها حركة تحرير مشروعة، وفي حالة دفاع عن النفس وعن حقوق الإنسان المنتهكة من قبل المحتلين.

وأخيرا، لو اضطرت أميركا لمغادرة العراق ألن يكون ممكنا ومنتظرا منها ومن حليفاتها التعجيل بتوريط النظام الإيراني في العراق وسوريا بحرب عصابات، من نوع جديد، لا يَحتمل أكلافها العسكرية والسياسية والاقتصادية الباهظة، خصوصا في وضعه السياسي والاقتصادي والعسكري المأزوم داخليا، والمهزوز خارجيا، في العراق وسوريا واليمن ولبنان؟