لعبة صراع تحتي متعددِ الساحات والمعارك والأسلحة ومن نوع فريد وجديد، بين أميركا وإيران على الساحة العراقية، يغلفها الطرفان المتشابكان، كلاهما، بمحاربة الإرهاب ومواجهة ما تبقى من داعش.
 

إن من يتابع تصريحات المسؤولين الأميركيين المتناقضة عن عراق ما بعد زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني يتوهم أن الولايات المتحدة تائهة وواقعة في حيص بيص، والحقيقة أن حكومة عادل عبدالمهدي هي وحدها المُغرَقة في ذلك الحيص بيص. فإلى من تميل، وكيف وكم تميل؟

فالمبعوث الأميركي الخاص بإيران، براين هوك، يصرح بأن “العقوبات الأميركية تحرم الحكومة الإيرانية من الدخل الذي تستخدمه في زعزعة استقرار المنطقة، ويجب على الجميع الامتثال لها”، محذرًا “حكومة بغداد من السماح لطهران باستغلال العراق لتحقيق هدفها المتمثل في الخروج من العقوبات الأميركية”.

ثم تخرج علينا وزارة الخارجية الأميركية لتعلن استمرار إعفاء العراق من الالتزام بالعقوبات الأميركية على إيران، ومواصلة شراء الكهرباء الإيرانية لمدة 90 يوما إضافية. ثم تزيد على ذلك قولها “نواصل مناقشة العقوبات الخاصة بإيران مع (شركائنا) في العراق”.

ثم يأتي خبرٌ ثالث لا يقل دعابةً وخفة دم عن الخبرين السالفين. فقد ذكر المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء، عادل عبدالمهدي، أنه “أجرى اليوم اتصالاً هاتفيًّا مع نائب الرئيس الأميركي، مايك بينس”، وأن “الطرفين أكدا خلال الاتصال على دعم علاقات الشراكة وتعزيزها لخدمة مصالح الشعبين، والاستمرار في مساندة جهود الحكومة العراقية للقضاء على بقايا تنظيم داعش الإرهابي، إلى جانب المساعدة بإعمار العراق والاستقرار في المناطق المحررة”.

وبحسب البيان العراقي، أشاد نائب الرئيس الأميركي بـ”دعم عبدالمهدي لحقوق الأقليات الدينية، ومتابعة شؤون الأيزيديين، والسعي لإعمار المناطق المحررة، من أجل إعادة جميع المهجرين إلى ديارهم”. والواضح أن الخيط الذي يربط هذه التصريحات المتضاربة هو أن أميركا لن تترك العراق، مهما يحدث، ومهما قيل، أو مهما سيقال، سواء بالملاطفة أو بالمشاكسة والتلويح باستخدام قوة أموالها ومخابراتها وسلاحها.

وذلك لأن الموقع الجيوسياسي العراقي ضروري وملح لمصالحها في المنطقة، أولا، وثانيا لأنها لا تستطيع أن تشطب من تاريخها السياسي والعسكري والاقتصادي ما أنفقته، من أجل امتلاكه، من دماء ومليارات وجهود مضنية، ليس من بداية غزوها للعراق في العام 2003 فقط، بل من قبل ذلك بسنين، وبالتحديد من أول أيام غزو الكويت، وما نتج عنه من تطورات تزامنت مع حربها لتحرير الكويت، وأهمُّها قرارُها احتضانَ المعارضة العراقية السابقة، حتى وهي تعلم بأنها معارضة إيرانية خمينية، بمشاركة سورية أسدية بامتياز. وخسارتها العراق تعني الكثير لهيبتها في العالم، وفي داخلها أمام ناخبيها، باعتبار أن خسارة العراق تدمر القدرات الانتخابية لكلا الحزبين الكبيرين.

فالولايات المتحدة، الجمهورية (جورج بوش الأب)، ثم الديمقراطية (بيل كلينتون)، ثم الجمهورية (جورج بوش الابن)، ثم الديمقراطية، (باراك أوباما)، منذ مؤتمر بيروت في العام 1991 الذي تزامن عقده مع انطلاق الانتفاضة التي يسميها المتدينون بالشعبانية، ويسميها غير المتدينين بانتفاضة آذار، ويطلق عليها البعثيون الصداميون اسم الغوغائية، باشرت مسلسل إنفاقها على قادة المعـارضة العراقية وأسرهم وأحزابهم وميليشياتهم، وتحمُّل سوءاتهم، وغض نظرها عن ارتباطاتهم العقائدية والقبلية والمناطقية والأسرية، ثم حَملِهم، مع قوات غزوها في العام 2003، من منافيهم في دمشق ولندن وبيروت وطهران وعمان والرياض، وتنصيبهم رؤسـاء جمهورية ورؤساء وزراء ووزراء ومدراء وسفراء وأصحاب جيوش وميليشيات وشركات واستثمارات في شتى أرجاء الدنيا الواسعة، ليس منها في وطنهم وشعبهم سوى أقل القليل.

وثاني الدوافع الأميركية الواضحة هو أنها واثقة، من خلال مراقبتها للوقائع والتطورات في العراق والمنطقة، وتحليلها للتغيرات الجارية في موازين القوى الإقليمية، وتصاعد الصحوة الشعبية العراقية الرافضة للهيمنة الإيرانية المتعسفة المتخلفة الانتهازية الطامعة، من أن إيران ليست باقية في العراق إلى ما لا نهاية، كما يتوهم علي خامنئي ويشتهي، وتنتظر خروجها عاجلا أو آجلا، لا بقوة الشعب العراقي القليلة الممكنة، ولكن بما ينتظرها في داخلها الإيراني نفسِه، بفعل عزلتها الدولية المتزايدة، وتفاقم أضرار العقوبات عليها، وقرب تصفير قدراتها على الإنفاق على داخلها المتأهب المتوتر، وعلى أذرعها المسلحة في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن.

إنها لعبة صراعٍ تحتيّ متعددِ الساحات والمعارك والأسلحة، ومن نوع فريد وجديد، بين أميركا وإيران على الساحة العراقية، يغلفها الطرفان المتشابكان، كلاهما، بمحاربة الإرهاب ومواجهة ما تبقى من داعش، والحرص على إعادة الأمن والاستقرار إلى المنطقة، وكل حزب بما لديهم فرحون.

ولأن حكومة عادل عبدالمهدي، حاليا، وحكومات حزب الدعوة السالفة، لا تملك القوة، ولا القدرة على النأي الحقيقي الحازم والحاسم عن أي من المتلاكمين الكبيرين، على أرضها، وداخل مؤسساتها المالية والأمنية والعسكرية ذاتها، فهي ملزمة بالدخول إلى قلب هذا الاشتباك الدامي بينهما، وتلقي الصدمات من كليهما.

وهي تعرف، والشعب العراقي يعرف أنه في مأزق خانق ومهين. وحين تحاول الظهور بمظهر اللاعب الثالث القادر على الاختيار في هذه اللعبة المعقدة، فإنها قبل غيرها وأكثر من غيرها تعلم بأنها لعبة أكبر منها بكثير، وأنها لن تنتهي عليها بأي خير.

واللعبة مستمرة، والحبل على الجرار، والبقاء في النهاية للأقوى والأقدر على الصبر والملاعبة وطول النفس. أما أهلنا في العراق فمنتظرون متفرجون، وعلى نار.