العراق لا يحتاج إلى قواعد عسكرية أميركية ليتأكد العراقيون أن الاحتلال حقيقة واقعة على أراضيهم، فآثار الاحتلال لا يمكن إزالتها باتفاقيات أمنية أو بالولاء لمحتل آخر، إنها في الانقسام المجتمعي الذي فرضته الحكومات والميليشيات في طريقة إدارة الدولة.
 

ما كان يبعث على خيبة الأمل في نفوس أهل العراق أن الإرهاب الإيراني الذي بدأ منذ وصول الخميني إلى السلطة، قبل 40 سنة، وكان موجها ضد وطنهم ووجودهم، لم يستشعر حينها به الكثيرون بل ذهبوا إلى تأييد الثورة لأسباب عديدة أهمها طابعها الإسلامي ولمسات بمقاييس متباعدة في الظاهر لكنها اجتمعت على عناصر خارجة عن المألوف تمثلت في الموقف الفرنسي وبخلفية قناعة أميركية جيوسياسية أملتها تطورات الأحداث والعلاقة مع الاتحاد السوفييتي.

مبعث الأمل الآن في وضوح صورة الإرهاب بهيئة ولاية الفقيه للمجتمع الدولي وللولايات المتحدة وللعرب في المقام الأول، لأن الإرهاب الإيراني وُضِع أخيرا على طاولة الاهتمامات الجادة في رؤية جديدة وفاعلة تعيد إلى الأذهان معاناة العراقيين وتعايشهم مع هذا الإرهاب عمليا بحدوده القصوى في إشعال فتيل حرب الثماني سنوات بفيض من الدماء والمآسي، وكذلك بتناسي العالم لها في نظام دولي يفيض هو الآخر برموز السياسات التي طحنت بين فكيها شعب العراق والشعوب الإيرانية، ومازالت رغم نهاية حقبة الاتحاد السوفييتي وصولا لبداية صعود طموحات الاتحاد الروسي.

الولايات المتحدة، برعايتها للتجمع الدولي في العاصمة البولندية وارسو، تثبت حقيقة الإحباط من المنظمة الأممية وتحديدا مجلس الأمن في استمرار غياب التوافقات والتفاهمات بين الأعضاء الدائمين لإصدار ما يمكن أن يكون قرارات ملزمة لحل الأزمات البالغة الخطورة في منطقة الشرق الأوسط التي عصف بها إرهاب التنظيمات المتطرفة، وما ارتكبته من جرائم وحشية وتمدد إرهاب تنظيم الدولة الإيرانية الذي فاق كل التصورات في تقمص منهجية العصور المظلمة من تاريخ البشرية بسلوكه ومخططاته التي سخر لها معظم موارده تصديرا لنزاعاته الإمبراطورية واختلالاته الفكرية الغابرة.

الولايات المتحدة باحتلالها العراق في أبريل 2003 وما سبق ذلك التاريخ من دعم لما يسمى بالمعارضة، وهي في معظمها أحزاب طائفية وبقيادات ميليشياوية خاضعة لإيران، لا يمكنها أن تتجاهل بعد 16 سنة من الاحتلال طبيعة انتماءات السلطة الحاكمة في العراق وميولها العقائدية المُلزِمة أكثر من السياسة بالولاء إلى سلطة الولي الفقيه المرشد علي خامنئي.

لذلك فإن التغييرات الجوهرية في العلاقة بين إدارة الرئيس دونالد ترامب والنظام الإيراني تطرح العديد من الأسئلة عن واقع السياسة الأميركية وما يشاع عن الدولة العميقة التي وجدت لها مبررا لاحتلال العراق كحماقة أو ردة فعل لدولة عظمى أصيبت بجروح غائرة في 11 سبتمبر 2001 بإسقاط برجي التجارة العالمي في نيويورك في عهد الرئيس جورج بوش الابن الذي عثر على ضالته في الأحزاب الطائفية وقادة الميليشيات من العراقيين الذين خانوا وطنهم لأسباب مذهبية، وقاتلوا في الحرب مع الخميني ضد جيش بلادهم، وبسلوكهم المشين في معاملة الأسرى وبتفجيراتهم وعبواتهم وعملياتهم التي أرخت للإرهاب في العراق والمنطقة.

أثناء زيارة وزير الدفاع الأميركي بالوكالة باتريك شانهان إلى العراق ولقائه رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، صدرت تصريحات تؤكد احترام سيادة العراق واستقلاله وبقاء القوات الأميركية بطلب من حكومة العراق لمجابهة التحديات التي وصفتها الخارجية الأميركية بعد اللقاء بأنها تستجيب لمعلومات استخباراتية عن وجود 18 ألف مقاتل من تنظيم داعش في العراق وسوريا، وبتأكيد من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وتحت سقف توقعات يشير إلى تواجد غالبيتهم في العراق، إضافة إلى انتقال أفراد التنظيم المحتمل من سوريا إلى العراق بعد الهجمات على معاقل التنظيم الأخيرة.

سبب رئيسي آخر في توضيحات وزارة الخارجية الأميركية لمسألة البقاء في العراق يقوم على مواجهة الميليشيات ومراقبة أنشطة إيران الخبيثة والهدامة، على حد وصفها، وهو ما قاله الرئيس ترامب وأثار ردودا غاضبة يبدو أنها عجلت بزيارة الوزير شانهان للاطلاع على واقع التصريحات وبما انتهت إليه من دعوة عبدالمهدي لبرلمان العراق بإعداد رؤية متكاملة حول الوجود الأجنبي.

ولكل الواهمين بمفاهيم السيادة والاستقلال في العراق، خاصة لدى اللاعبين على حبل الوطنية من الذين يخضعون بالمطلق في ولائهم العقائدي لولاية خامنئي وينفذون حلمه الإمبراطوري في العراق، نقول إن الولايات المتحدة هي دولة الاحتلال التي ضحت بالآلاف من مقاتليها وبالتريليونات من الدولارات، فهل كان ذلك فقط لإسقاط النظام ولتتسلم تلك الأحزاب الطائفية وميليشياتها حكم العراق؟

خروج القوات الأميركية من العراق بالاتفاقية الأمنية بين إدارة الرئيس باراك أوباما ورئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، يراه الرئيس ترامب وإدارته بعضا من تهم دعم الإرهاب الإيراني وتمدده تمهيدا لإبرام صفقة الاتفاق النووي وتسليمه المليارات من الدولارات في شحنات مشبوهة وبخدمات مسبقة تسيد فيها نوري المالكي المشهد بفتح أبواب السجون والحدود لإطلاق إرهاب تنظيم الدولة ومبررات تدمير المدن وتهجير المواطنين في عمليات تطهير مذهبي ممنهجة.

عدم حضور العراق مؤتمر وارسو يأتي منسجما مع الولاء العقائدي لولاية المرشد، لكن ذلك لا يمنع من إيجاد مخرج لتواجد القوات الأميركية في العراق تحت حجة التدريب والإسناد الجوي والمعلومات الاستخباراتية، بما سعت إلى تصديره للإعلام قيادات الحشد الشعبي وأيضا بما توجهت إليه من غلق بعض المقار التي وصفتها بالوهمية وغير الخاضعة لهيئة الحشد رغم أنها تمارس منذ سنوات مهام القرصنة والسرقات والتهديد وفرض الإتاوات، فلماذا هذا التوقيت؟

العراق لا يحتاج إلى قواعد عسكرية أميركية ليتأكد العراقيون أن الاحتلال حقيقة واقعة على أراضيهم، فآثار الاحتلال لا يمكن إزالتها باتفاقيات أمنية أو بالولاء لمحتل آخر، إنها في الانقسام المجتمعي الذي فرضته الحكومات والأحزاب والميليشيات في طريقة إدارة الدولة والوزارات والموازنات الاتحادية وحصص المحافظات بأثر سياسي أو توافقات أو أفضليات طائفية وعرقية. دولة العراق هي نتاج الاحتلال التي بذخت على الشعب الطائفية والإرهاب والميليشيات والصراعات والتلوث على عموم العراقيين، ومنعت عنهم الخدمات والسلم الأهلي والتعليم والأمن والصحة والأمل بالحياة المستقرة الكريمة.

الولايات المتحدة باقية وتتمدد في سفارتها العملاقة في المنطقة الخضراء بواجباتها التي تتعدى واجبات القواعد العسكرية وبما تهيئ له من توسعة لقنصليتها في أربيل التي تتجه إلى أن تكون “سفارة” أكبر من سفارتها في بغداد، وبمطارات محكمة في قواعد جوية ومهمات مراقبة وعمليات هجومية بلا حدود ضد الإرهاب الذي بات يعني أولا الدولة الراعية للإرهاب في العالم كما يعني التنظيمات المتطرفة.

مؤتمر وارسو ترافق مع فعاليات وتصريحات وزيارات وجلسة لمجلس الأمن أكدت فيها المبعوثة الأممية إلى العراق جينين هينيس على ما يعانيه العراقيون من إرهاب متعدد يمنع مكافحة الفساد والميليشيات ونقص الخدمات، واضعة النقاط على الحروف في مرحلة أقل ما توصف به أنها مرحلة تبعث على الأمل عند العراقيين الذين ترسخت لديهم القناعة خلال 40 سنة الماضية أن لا شفاء لأمراض وطنهم المزمنة إلا بسقوط ونهاية النظام الإرهابي في إيران.