لا شك في أن تعزيز الحوار الديني بين المؤسسات والرموز الدينية تشكّل حافزاً مهمّاً للحؤول دون استمرار بعض النزاعات التي تأخذ طابعاً دينيّاً أو مذهبياً وتحد نوعاً ما من الصراعات الفتنوية خاصة تلك التي تخلق فجوات عميقة تبعد مسافات التقارب بين أصحاب الديانات.

اليوم وبعد توقيع الوثيقة التاريخية بين مؤسستين كبيرتين في العالمين الإسلامي والغربي والتي تشكّل أنموذجاً فريداً لطبيعة العلاقات بين الديانة الإسلامية والمسيحية على صعيد الإخاء الإنساني، وبخِطابٍ احتضنته أبو ظبي بحضورٍ لجميعِ الأديان وبشهادةِ شيخِ الأزهر أحمد الطيب كان البابا فرنسيس يقدّمُ الرؤيا البابوبيةَ الإنسانيةَ للعائلةِ البشرية ِالواحدة ويدعو الى الاعترافِ الكاملِ بالآخرِ وحريتِه وحقوقِه وعدمِ تقييدِه حتّى باسمِ الله فلا يمكنُ أن تَجبِرَه أيُّ مؤسسةٍ بشريةٍ على شيء.. وشجاعةُ الاختلاف هي روحُ الحوار ..  وأنْ ليسَ بإمكانِنا أن نعلنَ الأخّوةَ ونتصرّفَ عكسَ ذلك وأنّ الذي يكذِبُ على نفسِه يفقِدُ الحقيقةَ واحترامَه لنفسِه وللآخرين، كما لا يمكنُ أن تتخلى الأديانُ عن واجبِها في بناءِ الجسورِ بينَ الشعوبِ والثقافات....

يفرض علينا هذا الواقع قراءة معطيات الحدث ونتائجه لخلق مناخ ثقافي روحي للتفاهم بين المسلمين والمسيحية من خلال القواعد المشتركة، سواء من خلال التاريخ الرسالي أو من خلال الرموز الدينية المشتركة أو من خلال المصالح الدينية المشتركة في حركة الدين في مواجهة الإلحاد العقيدي الذي يتمثل بإنكار وجود الله. والذي بات يشكل خطراً على الأمم والشعوب ويهدد سلمها وأمنها واستقرارها على كافة الصعد. أو في مواجهة الإلحاد السياسي الذي يتمثل في سيطرة المستكبرين على المستضعفين في اقتصادهم وسياستهم وثقافتهم. 

من هذا المنطلق بالذات نعرف قيمة هذه الوثيقة وما تعبّر عنه من مسألة التفاعل الإنساني بالإنفتاح على القضايا المحورية في الدائرة الواسعة التي تشمل الإسلام والمسيحية. وربما ينعكس هذا التفاهم إلى تعاون عملي واقعي في مواجهة عملية الإستكبار العالمي التي تمارس الضغط على الشعوب المستضعفة سواء كانت مسلمة او مسيحية أو وثنية. باعتبار أن عنوان الرسالتين يمثّل عنوان واقع المستضعفين في العالم.

إن هناك فترة طويلة من الزمن عاش فيها المسلمون والمسيحيون في حالة تباعد وتنافر وإنحراف عن مواطن اللقاء، ولا يزال المجتمع الإسلامي المسيحي يختزن كل تلك الذاكرة التاريخية المعبّأة بالكثير من الحساسيات والأوضاع التي تجعل كلّاً  منهم في شعوره ضد الآخر، لذلك كانت المسألة هي أنتا بحاجة إلى مناخ نستعيد فيه الأجواء الرسالية للقاء إسلامي مسيحي يُبنى على الخطاب الإنفتاحي الذي يقودنا إلى حل إشكالية الصراع، لتكون مسألة الإسلام والمسيحية هي مسألة فكرين وخطين ومنهجين يلتقيان في المسالة الأخلاقية والإجتماعية التي تفرضها الأخوة الإنسانية الجامع المشترك بين كل الديانات، وإن اختلفوا في المسألة اللاهوتية والعقدية التي تكشف إمكانية تقاطع بعض الخطوط بما يفسح المجال للحوار العلمي في جميع المسائل التي تتعلّق بإيجاد مناخ حواري وثقافي كخطوة واقعية من أجل الإنفتاح على كل القضايا.

وبما أن البابا فرنسيس يمثّل المركز الأول للكاثوليك في العالم، فإن خط الحوار الذي أطلقه بالتوازي مع دعوة شيخ الأزهر للحوار، يتجاوز كل الطروحات التي تمنع حركية الخطوات الإسلامية المسيحية نحو الحوار وتضع ثقّالات كبيرة أمامها كي تتعثّر الخطى بفعل سياسة الاستكبار العالمي للهمينة على كل مراكز صنع القرار. وللإبقاء على حالة التمزّق والتشرذم بين الأديان والمذاهب. لأن ثمة إرادة عالمية لا تريد القبول بمسألة الحوار الاسلامي المسيحي إلا بنحو سياسي استعراضي فاقد لكل معاني التسامح الديني والتعاليم الرسالية في الجوهر وإن أطلق العناوين الرنّانة لمفاهيم التسامح والسلام والعيش المشترك. 

إن التأكيد على مضامين تلك الوثيقة التاريخية بين رمزيتين دينيتين كبيرتين تؤكد أن بإستطاعة المسلمين والمسيحين أن يقدّموا برنامجاً موحّداً يعزز مفهوم الأخوة بينهما ويحمل رسالة كبرى ومهمّة إلى كل الديانات بأن تتخذ هذا النسق من التوجّه نحو الحوار سبيلاً لها للخروج من الفكر المعلّب من أجل ضمانة وعيها الإنساني.

وهذا لا يتنافى مع عقلنة المنطلقات الدينية وحمايتها من حركة التعددية التي يمثلّها الآخر على صعيد الحوار بما يتعلّق بمسألة الإيمان والمضمون الفكري للإسلام والمسيحية. والذي قد يفسّر في بعض الأحيان وبوحي من الإرادة السيّاسية بأنه مسألة معقّدة لا تؤتي أكلُها على مستوى الخطوط الفكرية أو السياسيّة،  وبالتالي لن يكون بمقدور جماعة المتحاورين النفوذ إلى حركة الواقع ولا أن يفرض الحوار نفسه على الرأي العام بسبب ضعف  هالته. مع أنّ الواقع الفكري الذي تمثّله حركة التعددية الدياناتية تخلق جوّاً إيجابيّاً تتحرّك من خلاله للبحث عن نقاط اللقاء وأساليب الحوارات الموضوعية.

أمام هذا الواقع والتحديات السياسية والإعلامية المثيرة للنعرات والعصبيات من هنا او هناك، يدخل الطرح الرسالي على الخط ليواجه بعقلانيته المشاريع العلمانية والحركات الأصولية المضادة لتوجهّات الخطاب الديني الاسلامي المسيحي السليم، والمرتكز على مبادئ الدياناتية التوحيدية والقيم الروحية والإنسانية الحضارية التي أكّدتها رسالات السماء.
هذه الصورة المشرقة للتعايش بين الأديان أصابها قدر لا يُستهان به من الفتور والضعف والانهيار، ليس فقط في عالمنا الإسلامي، وإنما في العالم كله، وذلك نتيجة لما يمرّ بعالمنا من نزاعات جسام وحروب نعاني منها حتى اليوم.

 لهذا فإنّ بابا روما نظرَ في خِطابِه الى عواصمَ تُدميها الحروب فاستذكرَ اليمنَ وسوريا وليبيا معتبراً أنّ عواقبَ الحربِ في اليمنِ وغيرِه مِن دولِ الشرقِ الأوسط "بادية أمامَ أعيننا" وأنّ الحربَ لا يمكنُ أن تؤدّيَ الى شيءٍ سِوى البؤسِ، والسلاحَ لا يَجلُبُ إلا الموت داعياً لمعارضةَ مَنطقِ القوةِ المسلحة.

ومن هنا أكّد شيخ الأزهر أن الوثيقة "تطالب قادة العالم وصناع السياسات ومن بأيديهم مصائر الشعوب وموازين القوى العسكرية، بالتدخل الفوري لوقف نزيف الدماء وإزهاق الأرواح البريئة، ووضع نهاية فورية لما تشهده من صراعات وفتن أوشكت أن تعود بنا لتراجع حضاري بائس وحرب عالمية ثالثة".

والخلاصة إن لقاء الأخوة الإنسانية بحث سبل تنسيق الجهود لنشر ثقافة التعايش والسلام ونبذ العنف والكراهية والتعصب والإسلاموفوبيا ودعم الفقراء والضعفاء وإنهاء التوترات الطائفية وما رافقها من عمليات تهجير جماعية للمسلمين والمسيحيين لأسباب سياسيّة واقتصادية ونتيجة أعمال وحشية ودموية تقوم بها عصابات الإرهاب التكفيري بحق المستضعفين من الشعوب الاسلامية والمسيحية. 

نأمل أن تشرّع الإمارات ابوابها لكل المسلمين ومرجعياتهم على قاعدة الاعتراف بجميع المذاهب دون أية تفرقة مذهبية ولكل المسيحيين ومرجعياتهم على اختلاف طوائفهم. وأن تنحو جميع الدول العربية هذه الخطى من أجل تحقيق العدل ونشر ثقافة الاحترام المتبادل بديلاً من ثقافة الكراهية والظلم والعنف.

كما نأمل أن ُتترجم وثيقة الأخوة التاريخية على صعيد المسلمين والمسيحيين في لبنان ترجمة عملية بالطريقة المنفتحة على الواقع الديني والسياسي والإجتماعي والثقافي. وهذه مسؤولية جسيمة تقع على عاتق الزعماء الروحانيين في أن تعطي الوعي الكامل لطوائفها للخروج من الدوائر الضيقة لينفتح الجميع على القضايا المشتركة التي توحد اللبنانيين وتحل مشاكلهم العالقة. وهذا يتوقّف على مصداقية القيادات الدينية في تعاطيها مع  العُقد الطائفية وإيجاد الحلول المناسبة لها، والتركيز على قاعدة واحدة يتفق عليها جميع اللبنانيين والتي رسم خطوطها العامّة الإمام السيّد موسى الصدر  في وثيقة الإتفاق الوطني ب "أنّ لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه".

 

السيّد إبراهيم سرور