ينقسم المراقبون عند إجراء أي مقاربة للمواقف الأميركية مما يجري في لبنان والمنطقة وتتناقض الآراء ليس لسبب، سوى لأنّ التفسيرات التي تُعطى لها تفيض منها رائحة الرغبات والأمنيات بين موالين ومعارضين من دون تكلّف عناء البحث عن الحقائق والتعمق في ما يمكن هذه الإدارة ان تقوم به او تريده. وعليه يطرح السؤال: الى أيّ حد يمكن قياس غضب الولايات المتحدة أو رضاها على ما يجري؟
 

من الطبيعي ان تفسّر المواقف الأميركية بنحو متناقض عند قراءة اي حدث او موقف، فالانقسام أمر واقع وشامل بين من يرغب في انتصار استراتيجة الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة والعالم وبين من يعاديها في كل الحالات والمناسبات بلا أي حرج. فلكل من الطرفين القدرة على توفير الأسباب التي تدفع الى التمسّك بمثل هذه القراءات على علّاتها الى النهايات.

هذا على المستوى العريض للمواقف، لكنّ التوغل في كثير من تفاصيل الملفات الداخلية اللبنانية والإقليمية التي تتدخل فيها الإدارة الأميركية لا بد من ان تتقاطع بعض القراءات تلقائياً إذا استندت الى معلومات دقيقة حول ما تريده واشنطن من خصومها وحلفائها معاً، وما يمكن ان تصل اليه. فالبراغماتية الأميركية تؤدي الى وضع لوائح من الملاحظات والمطالب التي تقاس بما يتناسب وقدرات الجهات التي تستهدفها ومواقعها، وصولاً الى ما يمكن ان تقدمه لهذه الاستراتيجية.

وقرأت مراجع ديبلوماسية المقاربة الجامعة للمواقف الأميركية تجاه لبنان والمنطقة من ابواب عدة، وأبرزها ما عبّر عنه الموفدون الاميركيون الديبلوماسيون والعسكريون والماليون الى بيروت في الأيام المنصرمة، والتي تركزت على عنوانين كبيرين وأساسيين:

- مواجهة الإرهاب بكل أشكاله المتمثلة بمنظمات ومجموعات متعددة الإنتماءات السياسية في المنطقة ممّن تساندهم إيران كـ»حزب الله»، وكذلك الذين يحاربونها في آن كـ»داعش»، وهو ما يترجم بالمنطق الأميركي الشامل الإرهاب «الشيعي» و»السني» وضرورة تجفيف مصادر تمويله.

- الإصرار على ضرورة ان يكون القطاع المصرفي يقظاً باتخاذ كل الإجراءات الإدارية والمالية لمنع الإرهابيين ومُمتهني تبييض الأموال وشخصيات ومنظمات على حدّ سواء من استغلال هذا النظام واستخدامه، وهو أمر يلتزمه لبنان الى حدود قصوى.

وانطلاقاً من هذين العنوانين، فإنّ المقاربة الموحدة للموقف الأميركي تستدعي الإشارة الى أنّ جميع الموفدين الأميركيين لم يتناولوا في محادثاتهم اللبنانية اي إشارة الى «حزب الله» مباشرة نتيجة فهمهم العميق للواقع اللبناني. لكن، وعلى رغم هذا الغموض في الموقف الأميركي، فإنّ مجرد الحديث عن التزام لبنان العقوبات المالية التي طاوَلت المسؤولين في «الحزب» ومناصريه من شخصيات وشركات، توحي أنّ المسؤولين اللبنانيين فهموا الرسالة. 

وثمّة من يقول انّ تولّي «الحزب» وزارة الصحة جاء من ضمن تفاهم غير مُعلن، يقضي بأن يكون ممثّل «الحزب» من غير المنتمين الى صفوفه وهو إلتُزِم به في التشكيلة الوزارية النهائية، فعُيّن الدكتور جميل جبق بدلاً من الدكتور جمال الطقش أحد مسؤولي الحزب في البقاع الشمالي. ولذلك، بَدا واضحاً انّ الحزب فهم الرسالة. وشرع الوزير الجديد منذ تعيينه في التأكيد أنه لم يَنتم في حياته الى أي تنظيم، وأنه ملتزم كل القوانين التي تحكم عمل الوزارة، خصوصاً لجهة استيراد الأدوية الإيرانية التي شملتها العقوبات، فهي لا تجيز تسديد ثمنها بالقنوات المصرفية الدولية. 

وكذلك ظهر انّ رئيس الحكومة سعد الحريري ومنذ تكليفه لم يتحدث يوماً عن حقيبة وزارة الصحة فصمتَ حتى تأليف الحكومة، وقال علناً قبل ايام انه لم يكن محرجاً تجاه هذه الخطوة. فلماذا يسعى البعض الى تحميلها ما لا تحمل؟

وأمام كل هذه الملاحظات تقف الإدارة الأميركية عاجزة عن التعبير علناً عن غضبها، فهي والى جانب دعمها المستمر للجيش والقوى العسكرية والأمنية تدرك انّ لبنان لم ولن يخرج عن التزامه الصارم بالقوانين الهادفة الى مكافحة الإرهاب وتجفيف مصادره وتبييض الأموال، فيما ترى نفسها مضطرة الى مواجهة حلفائها من الدول الكبرى التي ترفض العقوبات على ايران، وهنا تكمن أهمية البحث عن حجم الغضب الأميركي على لبنان الذي لا يُقاس بحجم غضبها على غيره من دول العالم.