في 25 أيار 2014 حلّ الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية ورئاسة الدولة. لنحو سنتين ونصف السنة تعذّر انعقادُ مجلس النواب وتأمينُ النصاب لانتخاب الرئيس. إستحقاق دستوري أظهر «غفلة» من غفلات الدستور المُنبثق من «اتفاق الطائف». في 24 أيار 2018 سُمِّي الرئيس سعد الحريري لتأليف الحكومة، مرّت 8 أشهر على بدء عملية استيلادها إلّا أنّ التشكيلة الوزارية لم تنضج حتى الآن، وما بـ»يد الدستور» حيلة مُحدّدة في مادة. هذان نموذجان لأزمات تطرح تعديلات دستورية في وقتٍ يسعى البعض إلى تعديلاتٍ لأهدافٍ غير دستورية، ولتوسيع نفوذٍ سياسيٍّ أو طائفي.
 

للدستور اللبناني خصوصية، إذ إنه شكّل حلّاً بعد حروبٍ أهلية دامت 15 عاماً، وتمّ التوافق عليه لإنهاء النزاعات وتحقيق العيش المُشترك وصونه على أساس المساواة بين المواطنين، والحفاظ على خصوصية الطوائف وعدم هيمنة طائفة واحدة على الطوائف الأخرى.

وفي ظلّ وجود هواجس لدى «الأقليات» في لبنان وتخوّفها من «الذوبان» أو خسارة موقعها في الدولة، يُعتبر كلّ طرح لتعديل الدستور مسّاً بصلاحية طائفة. ففي المرحلة الراهنة، كلّ كلام عن تحديد مهلة للرئيس المُكلف لتأليف الحكومة، حتى إذا كان من منطلق دستوري ولمنع فراغ المؤسسات، يُعتبر مسّاً بصلاحية رئاسة الحكومة وبالتالي استهدافاً للطائفة السنّية، ما يحوّل الطرحَ «أزمةً طائفية». ويسري هذا على كلّ المواقع والمؤسسات.

ويتعزّز هذا التخوّفُ في المرحلة الراهنة عند الطوائف المسيحية والطائفة السنّية، إذ يُتّهم «حزب الله» بسعيه إلى تعديل الدستور والنظام في لبنان والانتقال من المناصفة المسيحية ـ الإسلامية إلى المثالثة المسيحية ـ السنّية ـ الشيعية وتعزيز موقع الطائفة الشيعية في الدولة، على رغم أنّ «الحزب» ينفي ذلك، مؤكداً تمسّكه بـ»اتفاق الطائف» وبالصيغة اللبنانية. 

وأتى الردُّ على هذه الاتّهامات المُتداوَلة أخيراً، على لسان الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، فأكّد في مقابلته التلفزيونية السبت المنصرم أنّ «ما يتردّد عن تغيير «اتفاق الطائف» والمثالثة أمر لا أساس له»، وقال: «نحن الشيعة لم نطالب بالمثالثة أبداً في لبنان ولم نتحدث عنها بالمطلق».

فهل تجمِّد المخاوفُ من تغيير المعادلات الطائفية «اتفاق الطائف» فيُعتبر دستوراً «مُنزلاً» حرفياً وغيرَ قابلٍ للتعديل؟
يوضح المرجع الدستوري الوزير والنائب السابق إدمون رزق، الذي شارك في صوغ «اتفاق الطائف» أن «لا حاجة لتعديلٍ دستوريّ، فالإشكالية ليست أنّ هناك خللاً في الدستور بل إنه لا يُطبّق». ويقول لـ»الجمهورية»: «يهربون من تطبيق «اتفاق الطائف» إلى طرح تعديل الدستور. هناك محاولة لتحميل الدستور وِزر عدم تطبيقه فيما أنه واضح وصريح وقابل للتطبيق بكل سهولة». ويرى أنّ «المشكلة تكمن في عدم أهليّة أولياء الأمر الذين يتولّون الحُكمَ وليست في عدم إمكانية تطبيق الدستور. فهناك عدمُ قدرة أو عدمُ أهليّة أو عدمُ رغبة أو عدمُ جدارة لدى المعنيين لتطبيق الدستور».

وإذ يُشدّد على أنّ «دستورَنا مرن وواضح»، يشرح رزق أنّ «التعديل الدستوري انبثق من «اتفاق الطائف»، ولهذا الدستور فلسفةٌ هي «تدبُّر أمر تنفيذ الدستور انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية وحسن النيّة على أساس المعرفة». فيما هناك اليوم جهالة وسوء نية وكأنما كل موقع دستوري يتربّص بالآخر للنيل منه، فيما الدستور ينصّ على فصل السلطات وتعاونها».

ويشير إلى «أنّ هناك حالة خصوصية هي الحالة الطائفية، لذلك دستورنا نُصَ على نحوٍ يوفِّق بين طائفية المسؤولين وبين صلاحياتهم، ولعدم رهن مصير طائفة لطائفة أخرى».

وإذ يركّز على أنّ «الهروب من تطبيق الدستور إلى تعديل يعني أمرين: جهالة أو سوء نيّة»، يعتبر أنّ «كل إثارة لموضوع الصلاحيات هو عبث بالاستقرار. فالمشكلة ليست في الصلاحيات بل في الأهلية لممارسة الصلاحيات القائمة». ويوضح «أنَّ أيَّ تفكيرٍ في التعديل يطرح إشكالية العيش المُشترك، أو يجعل من مسلّمة العيش المُشترك إشكالية، لأنّ لبنان هو البلد الوحيد في الشرق الذي يوجد فيه مواطنون لا رعايا. فهناك شراكة فعلية بين المواطنين بمختلف طوائفهم، غير قائمة على الذمّية والتبعية والفوقية والتسامح. وإنّ دستورنا ونظامنا غيرُ قائمين على التسامح بل على المساواة، فلا تتسامح طائفة مع طوائف أخرى بالصلاة مثلاً، بل إنّ هذا حقٌّ محفوظ بالدستور للطوائف الـ18». ويرى رزق أنّ «كلّ مَن يطرح تعديل الدستور من أجل ضمانات طائفية أو مذهبية يرتكب الخيانة العُظمى». 

لكن ما هو الحلّ لتفادي الفراغ والأزمات عند كلّ استحقاقٍ دستوري؟

يجيب رزق: «المطلوب تطبيق «اتفاق الطائف» نصاً وروحاً تحت طائلة سقوط الصيغة ولبنان. أمّا الحلّ فيكمن في استبدال الأشخاص غير المؤهّلين للحكم بآخرين مؤهّلين لتولّي السلطة، لا أن يُعدَّل الدستور. وهنا تقع المسؤولية على الشعب اللبناني عند الاختيار والانتخاب».

حسب الدستور، يتطلّب البحث في تعديل دستوري التئام ثلثي أعضاء مجلس النواب ويجب أن يكون التصويت بالغالبية نفسها. وعلى رغم أنّ غالبية الثلثين تمنع تفرُّدَ طائفة بالتعديل أو فرضَه على الآخرين، فإنّ كلّ طرح لتعديل الدستور يثير مخاوف الطوائف، تحديداً المسيحية منها، إذ إنّ المسيحيين متمسّكون بلبنان وطن نهائي منذ إنشاء دولة لبنان الكبير كما أرادوه، ويتخوّفون من الذوبان في منطقة عربية وشرق أوسطية يُعتبرون فيها أقلّية بالنسبة إلى الغالبية السكانية المُسلمة.

ومن أسباب التمسّك بـ»الطائف»، أنّ التعديلات الدستورية (21 – 9 – 1990) المُنبثقة من «اتفاق الطائف» تحفظ خصوصية الطوائف في لبنان وموقعها بعيداً من «الحُكم العدَدي».

فهل تتوجّس بكركي من طرح تعديل الدستور؟ وهل توافق على تعديلات تمنع الفراغ وتصون انتظام عمل المؤسسات؟

تعتبر البطريركية المارونية أنّ «هناك ثغرات وفجوات نواجهها في «اتفاق الطائف» تتطلّب تصحيحاً، أما الآلية وطريقة حصول ذلك فهي أمر متروك للسياسيين». وتقول مصادرها لـ«الجمهورية» إنّ «هذا الموضوع يحتاج الى نقاش هادئ متروٍّ وأن تُهيَّأ له أجواء مؤاتية. ففي ظلّ التشنّج الحاصل الآن، كل شيء يخدم الخلفيات الطائفية، وإنّ أحداً لن يستوعب طرحَ تعديل دستوري لدواعٍ دستورية فقط». وتشير إلى أنّ «هناك تحذيراً من اننا إن بدأنا بالتعديل لا نعرف إلى أين قد نصِل، فالتعديلُ الدستوري أصبح مخيفاً لأنه حُمِّل عناوينَ كثيرة مثل المؤتمر التأسيسي وتغيير النظام والمثالثة وغيرها، لذلك كل فئة ستعتبر نفسَها مُستهدَفة».