أكثر ما يخيف الكاتب، فكرة خام تؤرقه وعجزت لغته عن صقلها، ذلك ما يجعل من الصفحة البيضاء الفارغة من أفكاره وكلماته ذعراً حقيقياً يفزعه كما لو أنه يواجه أخطر عدو على تخوم حضوره الأدبي، فهاجس الكتابة يجعله يضع الحياة والكتابة في ميزان تتساوى دفّتاه، وقد ترجّح في نفسه ولو سراً دفة الكتابة لأنها بالنسبة إليه وجوده الحقيقي.

خلال الأسابيع الأخيرة من نهاية العام الفائت، كثرت الإصدارات الأدبية الجديدة، ووضع النشطاء من القراء خططهم للقراءة خلال العام الجديد وأعلنوا تحدياتهم بإنهاء قراءة أعداد كبيرة من الكتب، حتى الجوائز الأدبية أعلنت عن قوائمها أو فتحت أبوابها أمام مرشحين جدد لدورة العام الجديد. ووسط تلك الموجة العذبة، تساءل بعض القراء ممن خالفت بعض الأعمال توقعاتهم خاصة أولئك الذين ينتظرون كاتباً معيناً يتابعون جميع إصداراته، إن كان هناك سبب ملح لأن يصدر الكاتب كتاباً جديداً إن لم يكن لديه فكرة فريدة ومغايرة لإصداراته السابقة، فهل هناك ما يستوجب أن يصدر عملاً جديداً ويتجاهل بضعفه قوة أعماله السابقة وأثرها على قُرّائِه وهم النقاد الحقيقيون الذين يمارسون سلطة التقويم دون قيود.

أجاد العبقري ماركيز التواصل مع القارئ أثناء كتابته لكلاسيكيّته الشهيرة "مئة عام من العزلة"، فقد نشرت إحدى الجرائد الإسبانية تحقيقاً ذكر أن ماركيز بعدما قرأ روايته وهي شبه مكتملة، شعر بأنه تورط بنصه كمغامرة تتصارع فيها الكارثة مع السعادة، فانتابه عدم الحماس لنشرها، فالكاتب حتماً متورط بنصه، ذلك ما دفعه إلى نشر سبعة فصول من روايته في صحف مختلفة، لتطمئن وساوسه وتهدأ ريبته، ونتيجة لنشره تلك الفصول تابع ماركيز آراء وانتقادات القراء باهتمام، حتى إنه قام بنشر أحد الفصول في جريدة معظم قرائها من النقّاد، وأعاد ماركيز كتابة الفصول المنشورة في الصحف بحسب ما تلمّسه من القراء، فجاءت الرواية بتلك الواقعية والغرائبية التي جعلتها أيقونة أدبية فريدة.

قد تتوقف الكلمات فجأة وتصبح عسيرة الوجود، وقد تبقى حبيسة فكر الكاتب حتى يتأتى لها ظرف يناسبها لترسو أخيراً على صفحاته، وفي أتون هذا الركود تأبى الكلمات الهوادة وتنزف الأفكار أحرفاً ومفردات مشوشة من حصارها. ويحدث أن يتعرض الكاتب لما يسمى"قفلة الكتابة" حين تهجر الكلمات صاحبها وترصد أثر بعدها، بينما هي على شفا أصابعه تلوح بظلها وتثير رائحة الأفكار والأحداث، ذلك ما يجعل الكتابة عملاً مضنياً، لأن الكاتب يُدمن صياغة مفرداته بذوقه وحسه الخاص، ويشغله همّ أبحاثه ومشروعه الأدبي، وغالباً ينسحب القارئ إلى عالم النص الداخلي ليجد نفسه طرفاً من أطرافه، وقد يظهر للقارئ أثر صراعات الكاتب مع قسوة الكلمات وصلابتها، رغم ذلك يجد الكاتب لنفسه فسحة للكتابة كجزء من ترويض الكلمة، لذلك نجد الكاتب يكتب في أنماط الكتابة المختلفة، قد يهرب من الرواية إلى الشعر أو يستظل بالنثر، فهو لا يملك إلا أن يكتب لأن الكتابة حاجة ملحّة.