بدأ يتبلور في بعض الأوساط تَصوُّرٌ أعمق لطبيعة الأزمة الحكومية. فالأرجح، أن لا حكومة في المدى المنظور. وستبقى العقدة الحكومية قائمة في الشكل، فيما الأزمة الحقيقية هي الآتية: هل يكتفي «حزب الله» وإيران بنفوذٍ محدودٍ في الحكومة أم سيستفيد من الفرصة لتركيب السلطة كلها، وفق معادلات جديدة للقوة؟ وتالياً، هل وجد «حزب الله» أنّ الوقت قد حان ليُطْلِق «مؤتمره» التأسيسي على أنقاض «إتفاق الطائف»؟
 

في بيئة «حزب الله»، ليس هناك أي حراك جديد في الملف الحكومي. كما أنّ التوقعات بولادة حكومة جديدة، ضمن مدى زمني منظور، لم تعد قائمة. وبدأ يُسمَع كلامٌ عن خلط الأوراق السياسية كلها في الداخل، وإعادة رسم التوازنات على أسس جديدة.

يتردّد في أوساط «الحزب» أنّ أزمة تأليف الحكومة، بعد أزمات أخرى خطرة تعرّضت لها المؤسسات الدستورية، كشفت أنّ نظام «الطائف» يحتاج إلى إعادة نظر في العمق. فالبلد بقي عامين ونصف عام يتعثّر حتى تمّ انتخاب رئيس للجمهورية، وبقي يمدِّد لنواب العام 2009، 5 سنوات، حتى تمكّن من إجراء انتخابات نيابية في 2018.

واليوم، مضت 8 أشهر، وقد تمضي أشهر أخرى، قبل التمكّن من تأليف حكومة، فيما الاستقرار الاقتصادي والمالي على شفير اهتزازات خطرة. فهل يجوز استمرار التعاطي مع هذه التفسّخات بمنطق الترقيع؟

بالنسبة إلى هذه الأوساط، بات محسوماً أنّ «إتفاق الطائف» الذي وُلِد قبل 20 عاماً لتأدية وظيفة معيّنة هي إنهاء الحرب وإعادة بناء الدولة، بات يحتاج اليوم إلى نقاش في العمق، في ضوء المتغيّرات الهائلة التي طرأت خلال هذه الفترة والعثرات التي ظهرت، بحيث يتمّ تنفيذ البنود التي تستوجب التنفيذ وتعديل ما يحتاج منها إلى تعديل، فلا تبقى المؤسسات في وضعية التعثّر الدائم.

أكثر من ذلك، يجرؤ البعض على كشف الأمور في شكل أكثر وضوحاً، فيقول: «نريد أن نكون شركاء حقيقيين في تركيب السلطة التنفيذية. ففي المفهوم المتّبع حالياً، لا وجود لشراكة شيعية حقيقية في عملية التأليف. ويجب تصحيح هذه الثغرة.

والدليل هو أنّ التمثيل المطروح لحركة «أمل» و«الحزب» في الصيغ الثلاثينية كلها تعطيهما أقلّ بكثير مما تعطي الشرائح السياسية في طوائف أخرى.

فالنواب الشيعة الـ27 مطروحٌ تمثيلهم بـ6 وزراء، فيما نواب «التيار الوطني الحر» وفريق رئيس الجمهورية الـ29 سيُمثَّلون بـ10 وزراء، وهم يطالبون بأكثر، ونواب «القوات» الـ15 لهم 4 وزراء، ونواب الحريري الـ19 لهم 6 وزراء. ولذلك، يريد «الحزب» أن يكون شريكاً حقيقياً وفاعلاً في السلطة التنفيذية، بدءاً من تأليف الحكومة».

وبين المحللين مَن يعتقد أنّ الوجه الآخر من هذا الاستياء الشيعي عبّر عنه الرئيس نبيه بري صراحةً، إذ دعا إلى فتح حوار حول فكرة الدولة المدنية، معتبراً أنّها الحلّ الوحيد للأزمة.

وقد أوضح الوزير السابق وئام وهّاب بعضاً من مضامين الفكرة بعد زيارته عين التينة قبل أيام، مؤكّداً أنّ هذا الطرح أشدّ أهمية من موضوع الحكومة، وأنه انتقل إلى «مرحلة متقدّمة جداً».

ووفق وهاب، يرى رئيس المجلس أنّ التجربة أثبتت، بعد 2005، أنّ هذا النظام لا يستطيع إدارة نفسه. ويقوم تصوُّرُه على تشكيل المجلسين معاً: «مجلس الشيوخ الذي يكون ضامناً لحقوق الطوائف، ومجلس النواب الذي يكون مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، ولكن داخل المذاهب يجب أن لا ندخل في التفاصيل».

ولم يتبلور حتى اليوم ما إذا كان طرح بري منسّقاً مع الحلفاء أو أي قوى سياسية أخرى، وخصوصاً «حزب الله» شريكه في «الثنائي»، إلا أنّ انطلاق النقاش حوله سيقود حتماً إلى بحثٍ شامل وعميق في مختلف الأفكار والمشاريع المطروحة تحت عنوان «تطوير النظام».

عملياً، سيؤدي ذلك إلى وضع «إتفاق الطائف»، نصّاً وتطبيقاً، على طاولة التشريح. وستكون فرصة لكل القوى لكي تطرح تصوّراتها. وفي الدرجة الأولى، سيكون «الحزب» مستعداً لطرح «المؤتمر التأسيسي» الذي لطالما نادى به. لكن المشكلة التي سيواجهها هي أنّ حلفاءه ستكون لهم تصوّرات أخرى حول الثغرات والاعتراضات والطموحات.

ويبدو «حزب الله» راغباً في تسريع الدخول في هذه الورشة لضرورات إقليمية. فتراجع الحضور الإيراني، مقابل نمو الحضور الروسي في نظام الرئيس بشّار الأسد، سيضطر إيران و«الحزب» إلى الإسراع في تركيب سلطة تنفيذية «ضامنة» لهما، ليس فقط في الحكومة، أي على مدى سنوات عدّة مقبلة، بل أيضاً في تركيبة النظام بشموليته، وفي شكل دائم.

وسيؤكّد «الحزب» بذلك مقولة أنّ إيران لن تتخلّى عن نفوذٍ وازنٍ لها في لبنان، أياً كانت نتائج معاركها في الشرق الأوسط. فهي إذا ضعفت في المنطقة ستحتاج إلى التعويض بامتلاك أكبر مقدار من السلطة في لبنان، وأما إذا انتصرت في المنطقة فطبيعي أن تتوِّج انتصارها بامتلاك أكبر مقدار من السلطة فيه.

والواضح أنّ «الحزب» الذي يعتبر نفسه منتصراً في معارك سوريا والعراق واليمن، وفي القتال ضد «داعش» في جرود عرسال ومناطق لبنانية أخرى، وقاوم إسرائيل في العامين 2000 و2006، يرغب اليوم في تثمير انتصاراته سياسياً في الداخل اللبناني، وفي أقرب ما يمكن، لئلا تذهب بها التحولات المرتقبة في سوريا.

وعلى الأرجح، ليس هناك وقتٌ لدى «حزب الله» لكي يضيّعه، وليست هناك فُرَص سوى الأزمة التي تتخبّط فيها عملية تأليف الحكومة. ولذلك هو لن يهدر الفرصة. وعلى الأرجح سيجد أنّ من المناسب أن «يطبخ» المؤتمر التأسيسي على نار الحكومة.

ولكن، في لبنان، حيث الحلول تُطبخ بتغطيات عربية وإقليمية ودولية دائماً، وتُترجِم مصالح الأقوى على حساب الأضعف، يمكن السؤال: هل من الواقعي إنضاج المؤتمر التأسيسي في ظل هذه المعطيات… وعدم إحراق الحكومة؟