التأكيد في معرض النفي، فن سياسي يُتقنه الايرانيون ببراعة. الأميرال شمخاني رئيس "مجلس الأمن القومي"، زار أفغانستان حيث التقى بكل براءة مبعوثَين أميركيَّين، وانه رفض عرضاً منهما للتفاوض باسم بلاده لأن "أميركا غير جديرة بالثقة". في هذا النفي تأكيد للّقاء مع الاميركيين، وأنه دار حديث جدّي حول التفاوض وليس كما يقال بأنه لا توجد مفاوضات. الأساس إذاً يدور حول ما عرض ويعرض والضمانات للتوصل الى نتيجة إيجابية. الأهم أن من يقبل بلقاء على هذا المستوى، أي مع شمخاني الذي هو جزء أساسي في النظام وفي "الحرس الثوري"، مستعد للقاءات أخرى ولمفاوضات فعلية وعلى مستويات مختلفة وفي مواقع أخرى مثل سلطنة عمان دون قلق حول سريتها، من الطبيعي انه جرى خلالها وبشكل مكثف كل تفاصيل العرض والطلب، خصوصاً ان التجارب الناجحة والثقة الكاملة السابقة تشكل اكبر إثبات وبرهان على إمكانية نجاح التفاوض.

لم يعد الايرانيون يخشون من التأكيد بأنهم يتفاوضون مع "الطالبان "، بالعكس فهم يتفاخرون بالمفاوضات معهم وأنهم بذلك أصبحوا على علاقة مع كامل المكونات الأفغانية، بعد أن بقوا لفترة طويلة على علاقة عضوية مع "الهزارة" الشيعة فقط والذين أصبحوا رأس الحربة لهم في أفغانستان وصولاً الى انخراطهم في الحرب في سوريا قبل خمس سنوات في تكوين الميليشيا الشيعية المسمّاة لواء "الفاطميّون" الى جانب الباكستانيين الشيعة الذين يشكلون لواء "الزينبيون". واستناداً الى أحد قادة "الفاطميّون" فإن خسائرهم بلغت في سوريا وحدها ألفي قتيل وثمانية آلاف جريح.

كل هذا العرض مهم جدا لمعرفة كيف يفاوض الايرانيون ويقايضون في الحرب وفي السلام "من كيس غيرهم"، لذلك يمكنهم المفاخرة بانهم لم يرسلوا جنوداً الى الخارج للقتال حتى يطلب منهم الانسحاب. بينما الأميركيون "وبعد ١٧ سنة من المواجهات في أفغانستان يتحدثون اليوم عن الخروج". من الواضح أن طهران تعمل للعرض على الأميركيين خروجاً هادئاً وان تعمل بالتكافل والتضامن مع القوى الأفغانية ضمان الأمن والاستقرار...

في هذه الأثناء تتابع طهران العمل على الالتفاف على محاولات الحد من تسلحها الصاروخي. أبرز هذه المحاولات لتوسيع مدى سلاحها الصاروخي العمل على إطلاق أقمار صناعية بواسطة صواريخ باليستية. وتؤكد طهران أنها في هذه التجارب العلمية لا تنتهك القرار ٢٢٣١، في حين قال مارك بومبيو وزير الخارجية الأميركية ان بلاده "لن تقف مكتوفة الايدي امام هذه السياسة التي تضع الاستقرار والأمن الدوليين في خطر"، عادة تتم معالجة مثل هذه القضية المعقدة ضمن سلة المفاوضات والمقايضات...

إذن معاناة ايران في العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية تبقى محدودة طالما أنها بقيت خارج أي اشتباك مسلح. خصوصاً وأن واشنطن لا تريد الحرب وطهران غير قادرة عليها رغم كل العروض حول تسلحها الواسع الذي مهما انفلت يبقى محدوداً أمام القوة المسلحة الأميركية. المعاناة الحقيقية لإيران هي في الداخل أساساً، وهي على صعيدين: الاقتصادي وفي بنية النظام نفسه.

* يبدو العام الايراني القادم الذي يبدأ في العشرين من آذار القادم برأي اقتصاديين ايرانيين "عاماً شاقاً ومحفوفاً بالمخاطر...ذلك أن مؤسسة التأمين الاجتماعي وصناديق التقاعد مفلسة تماماً والحكومة تؤجل الدفع لها الى جانب ذلك ركود متزايد للمصانع وقلق جدي بأن يصل سعر الدولار إلى ثمانية آلاف تومان والمزيد من انكماش عميق في الصحة والتعليم (من علاماته استقالة وزير الصحة) "يكفي أن السلطة أبدت قلقها من أغنية لمغني البوب مهدي رباحي من خوزستان بعد انتشارها في البلاد لأنه يقول فيها "أنا آخر شهيد في هذه القبيلة... قبيلتي التي لا تملك لا خبزاً ولا ماء"...

* ان قرارات سريعة تجري لترتيب بيت السلطة الداخلي بحيث تتم عملية دقيقة في تعيينات تبدو عادية لكن في هذا الوقت تتضمن عملية الاستعداد لنقل السلطة لاحقاً بهدوء، من ذلك الكلام عن تعيين صادق لاريجاني رئيساً لمجلس تشخيص مصلحة النظام وإبراهيم رئيسي رئيساً للقضاء. ولا يمكن تقدير عمق وتوجهات التغيرات والتسميات حتى تتبلور مع تعيينات جديدة في "الحرس الثوري".

في طهران تصاغ الحلقة الاساسية في عملية بناء منطقة الشرق الأوسط ويبدو أن الربيع القادم سيكون حارّاً وغنياً بالاحداث وبالمفاجات ...السؤال الطبيعي، أين سيكون حارّاً؟ في الداخل أم في الخارج... وأين؟