هناك قوات نظامية مدربة بعد الاحتلال مطعمة ببعض الخبرات القتالية من الجيش القديم. لكن المأساة أن هذه القوات بتضحياتها وبما قدمته من دماء عراقية دون شك، كانت السبب في تسليم محافظات العراق إلى إرهاب تنظيم داعش وبهزيمة منكرة.
 

الجيش العراقي الذي كان سورا للوطن احتفل لآخر مرة في 6 يناير 2003 بذكرى تأسيسه الـ82، أي قبل ثلاثة أشهر من كارثة الاحتلال الأميركي للعراق في 9 أبريل 2003. بمعنى أن عمر الجيش الوطني توقف مع الاحتلال ومع قرار الحل أو الإلغاء أو التفكيك بموجب قرار سلطة الاحتلال “الائتلاف المؤقتة” رقم 2 في 23 مايو 2003 وبإعلان من الحاكم المدني بول بريمر.

حكومات الاحتلال باحتفالها بذكرى تأسيس أول نواة للجيش العراقي في 6 يناير 1921، تساهم في انتحال صفة ينم عن ازدواجية، أو على أقل تقدير عن مدارات لفضيحة عمالة مستمرة للمحتل، لانتزاع ولو بعض الأقنعة الوطنية من ركام الولاءات للولايات المتحدة أو لمشروع دولة الميليشيات الطائفية الخاضعة لمشروع ولاية المرشد.

يحق لهذه الحكومات الاحتفال في 8 أغسطس في كل سنة من سنوات الاحتلال بذكرى إصدار القرار رقم 22 لسنة 2003 والذي نص على تشكيل جيش جديد للعراق أو حسب التوصيف الدقيق قوات دفاع وطني؛ لكنْ لـ6 يناير في ذاكرة العراقيين طعم آخر للوطن في حياة المواطنين، رغم عديد الملاحظات على الجيش.

كانت ظروف تأسيس فوج موسى الكاظم في خان الكابولي بمنطقة الكاظمية في بغداد على النقيض تماما في مغزاه من تشكيل قوات دفاع وطني بقرار الحاكم المدني لقوات الاحتلال الأميركي، مع أن الوقائع تشير إلى ملامح قرار بريطاني في تشكيل الفوج الأول سنة 921؛ إلا أن الفارق يكمن في خلاص العراق من الإمبراطورية العثمانية واندلاع ثورة العشرين التي انتفض فيها العراقيون على الاحتلال البريطاني الذي وصلت إليه فكرة عدم قدرة الاستمرار في الاحتلال المباشر للعراق، فاختار الذهاب إلى تشكيل حكومة مؤقتة بصفة انتقالية برئاسة نقيب أشراف بغداد حينها عبدالرحمن الكيلاني الذي تم التوافق عليه لمكانته من كافة الأديان والمذاهب والقوميات وأيضا لكبر سنه الذي تجاوز الثمانين.

أي أن الجيش العراقي الذي يرتبط اسمه قلبا وقالبا بفوج موسى الكاظم كان إعدادا للخلاص من المحتل وبسمات ومعان عربية في الدلالة والمضمون. يتأكد لنا ذلك بحماسة وتاريخ الضباط وكيفية تجميعهم من نثار وامتدادات الثورة العربية الكبرى وكيف كان لهم الأثر في ما بعد بوضع لَبِنات الدولة الحديثة مع ما ظهر وتنامى من شعور بالانتماء إلى تاريخ مُلهِم للنهضة بالعراق والانتماء إلى قضايا الأمة العربية ووحدة مصيرها المشترك.

الجيش العراقي يحتاج إلى سرد طويل لمآثره في الدفاع عن أمته في الملمات والشدائد، لكننا نستعيض عن ذلك بقبور أو مقابر العراقيين وشواهدهم في المدن العربية حيث قاتلوا دفاعا عن أمتهم بما بذلوا في سبيلها من دماء وأرواح؛ وهذه القبور خير شاهد على وحدة العراقيين في بلادهم أيضا، فالتدقيق في أسماء الشهداء الموزعين على التراب العربي يغنينا عن الجدل العقيم مع دعاة الطائفية ومثيري الفتن المذهبية والدينية والقومية عن جدوى تجارة منتجات الاحتلالين الأميركي والإيراني.

هناك قوات نظامية مدربة بعد الاحتلال مطعمة ببعض الخبرات القتالية من الجيش القديم. لكن المأساة أن هذه القوات بتضحياتها وبما قدمته من دماء عراقية دون شك، كانت السبب في تسليم محافظات العراق إلى إرهاب تنظيم داعش وبهزيمة منكرة. رغم تسليحها الأميركي المتطور وتقنياتها وتجهيزاتها القتالية الحديثة استسلمت وبطريقة صادمة لقوى الإرهاب القليلة العدد والعتاد التي تتبعت أسلوب الصدمة والترويع. وكانت النتيجة ترك المدن مستباحة وضحية للإرهاب إن في سنجار أو في الموصل أو في صلاح الدين أو في الأنبار.

الرد المقابل، أو ما عرف بتحرير المدن من الإرهاب، كان شوطا آخر من القتل والإجهاز على ما تبقى من المناطق الآهلة بالسكان، ثم تركها لغاية الآن وبعد مرور أكثر من سنة على “التحرير” دون أي مبادرة من حكومات الاحتلال لرفع الجثث من تحت الأنقاض أو مد يد العون للأهالي وبعض الناشطين الغيارى من المتطوعين في أداء تلك المهمة غير العسكرية؛ دون أن نتطرق إلى الإعمار أو إعادة النازحين إلى مناطق سكناهم فذلك رجع بعيد.

لا نتوجه بالنقد إلى الضباط المهنيين ومقاتليهم. لكن القوات النظامية شهدت خروقات واضحة غيرت ملامح الجندية وأداء الواجب والانضباط والالتزام واحترام التسلسل في الرتب والترفيعات؛ فأعداد الفضائيين في القوات النظامية المسلحة ومنها قوات الأمن الداخلي وعلى لسان رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي تتجاوز الـ50 ألف منتسب، وهؤلاء يتقاضون الراتب دون أن يكون لهم وجود فعلي في الخدمة، إلا أن العبادي لم يتخذ أي قرار لمواجهة الفساد الذي يشمل كذلك رواتب الحشد الميليشياوي وباعتراف حكومات الاحتلال ذاتها.

القوات الحالية يمكن أن نرى فيها الملتحي ومنهم من يرتدي العمامة التي تذكرنا بقوات ولاية الفقيه وحرسها الثوري، إضافة الى ما يرفع من رايات مذهبية لا صلة لها براية العراق ومفاهيم الدفاع عن الوطن. وكذلك انتشار ظاهرة الدمج، أي دمج الميليشيات التي حاربت ضد جيش العراق الوطني في حرب الثمانينات جنبا إلى جنب مع قوات الخميني. وبعض هؤلاء زُجّ بهم لغايات الكسب العشائري وغيره بما حملوا من رتب عالية بين ليلة وضحاها مع امتيازات وحمايات خاصة تثير الضحك حد البكاء لما وصلت إليه الأحوال، وبالذات عند المهنيين في القوات المسلحة.

لم تكتف دولة الميليشيات بالنيل من بقايا المهنية في القوات النظامية بما دفعته عند سقوطها في أوحال مهانة تسليم الموصل للإرهاب، بل أسرفت في تهميشها لصالح قوات قاسم سليماني وحرسه الثوري بما يتمتع به من صلاحيات قانون برلماني ورواتب تضاهي أقرانهم في القوات المسلحة وتحت هيئة الحشد الشعبي التي ضمت معظم الميليشيات بما مكنها من الاستحواذ على الدبابات والمدرعات والصواريخ والأسلحة القتالية الثقيلة وأغلبية مقاعد مجلس نواب العراق المحتل.

الاحتفال بعيد الجيش العراقي في 6 يناير لمن يدري أو لا يدري من عملاء الاحتلالين، إنما هو اعتراف ضمني منهم بالأسف الشخصي وشعور بالنقص والذنب ورغبة مستحيلة في التطهر من جريمة الاحتلالين ومن تفشي الإرهاب والميليشيات وما انتهى إليه العراق من دفع القوات المسلحة إلى تحويل بنادقها من الحدود إلى صدور مدن الكرام من أهلنا العراقيين أو تحويلها بنادق للإيجار في خدمة الفساد وقمع المتظاهرين.