تنظر إسرائيل بارتياب شديد إلى الوضع الذي استجدّ في العراق على إثر ثلاث سنوات من الحرب ضدّ تنظيم داعش وما أفرزته من تعاظم في قوّة الميليشيات الشيعية ومن سيطرة فعلية على الأرض، وسطوة في المجال السياسي، اكتسبتها تلك الميليشيات التي لا تراها تل أبيب سوى نسخ متعدّدة من حزب الله اللبناني وأذرع يديرها ويتحكّم بها الحرس الثوري الإيراني.
 
وعبّر رئيس المخابرات الحربية الإسرائيلية الميجر جنرال تامير هايمان عن ذلك، محذّرا من أنّ إيران يمكن أن تستخدم نفوذها المتزايد في العراق لتحويله إلى منصة انطلاق لشن هجمات على إسرائيل.
 
وبالنسبة لطيف واسع من العراقيين، فإن نشوب نزاع إسرائيلي إيراني يكون بلدهم طرفا فيه أو مسرحا له، يعني لهم فتح معركة جانبية جديدة لا تعنيهم، قياسا إلى المعركة الأم المتعلّقة باستعادة الاستقرار المفقود في بلدهم، وتحسين أوضاعهم المعيشية، وإعادة إعمار مناطقهم المدمرّة، والحدّ من ظاهرة الفساد التي نخرت الدولة وأصبحت تهدّدها بالانهيار.
 
وقال هايمان خلال مؤتمر انعقد في تل أبيب “العراق خاضع لنفوذ متزايد لقوة القدس وإيران” في إشارة إلى فيلق القدس أحد فروع الحرس الثوري الإيراني والمتخصّص بإدارة وتنفيذ العمليات في الخارج.
 
وبعد الفرصة التاريخية التي أتيحت لإيران لمدّ نفوذها في العراق مع إسقاط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين بغزو أميركي سنة 2003، تجدّدت الفرصة لطهران سنة 2014 مع غزو تنظيم داعش وسيطرته على ما يقارب ثلث الأراضي العراقية، وذلك لترجمة نفوذها السياسي إلى سيطرة ميدانية بالوكالة عن طريق “جيش” من الميليشيات الشيعية التي شاركت في الحرب ضدّ التنظيم المتشدّد ضمن ما عرف بـ“الحشد الشعبي”.
 
وتمكّن الحشد الذي حظيت فصائله بدعم وتأطير من إيران من دخول مناطق بشمال وغرب العراق تقطنها غالبية من أبناء الطائفة السنية العراقية، وكانت من قبل بعيدة عن متناول يد الميليشيات الشيعية.
 
وطيلة فصول الحرب ضدّ داعش كان لقائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني ظهور ميداني متكرّر إلى جانب الميليشيات في كلّ من العراق وسوريا، حيث برز الترابط بين الساحتين في الاستراتيجيا التي تحاول طهران تنفيذها ومن ضمنها تأمين طريق مفتوح يصل بين إيران وضفة المتوسّط في لبنان وسوريا عبر الأراضي العراقية، وهو ما مثّل مدعاة قلق لإسرائيل إذ يعني في أحد وجوهه تحوّل الأراضي العراقية إلى محطّة لتزويد حزب الله اللبناني بالسلاح.

وترفع إيران منذ سقوط نظام الشاه سنة 1979 وتأسيس “الجمهورية الإسلامية ” على يد رجل الدين الشيعي آية الله الخميني، راية العداء لإسرائيل، وهو ما يعتبره مختصّون في شؤون الشرق الأوسط طريقة مثلى لاستثارة عواطف شرائح شعبية في المنطقة وتوفير الأرضية للتمكين لميليشيات تابعة لإيران ليس من الضروري أن تستخدم ضدّ إسرائيل، بل يمكن استخدامها للسيطرة على بلدان عربية مثل العراق واليمن.

ويقول خبراء أمنيون إنّ إيران تعمل على ضمان الترابط والتنسيق بين مختلف الميليشيات التابعة لها في بلدان مختلفة. وظهر ذلك الترابط خلال زيارة قام بها زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق قيس الخزعلي في وقت سابق إلى جنوب لبنان قرب الحدود مع إسرائيل برفقة عناصر من حزب الله اللبناني، حيث ظهر مرتديا بزّة عسكرية، و“مبشّرا” بالتمهيد “لقيام الدولة الإسلامية التي يحكمها صاحب الزمان المهدي المنتظر”.

وبرز القلق الإسرائيلي من التواجد الإيراني في سوريا والعراق مجّددا، مع إعلان الرئيس الأميركي مؤخرا سحب القوات الأميركية المتمركزة بشمال وشرق سوريا، ما يعني لتل أبيب انفتاح الطريق المنشود أمام إيران، خصوصا مع مسارعة أكثر الفصائل الشيعية العراقية تشدّدا لتأكيد استعدادها لملء الفراغ الذي سيخلّفه ذلك الانسحاب.

والأسبوع الماضي، وصل رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض إلى دمشق حيث التقى الرئيس السوري بشار الأسد، في زيارة ربطتها مصادر متعدّدة بتداعيات إعلان ترامب عن سحب القوات من سوريا.

والحشد الشعبي تابع قانونيا للقوات المسلحة العراقية، وخاضع شكليا لإمرة القائد العام لتلك القوات وهو رئيس الوزراء، وهو ما لا يمكن تجسيده بالفعل إذ لا تبعية فعلية للفصائل المشكّلة للحشد سوى لقادتها ومؤسسيها الأصليين.

وفي أغسطس الماضي ذكرت وكالة رويترز نقلا عن مصادر إيرانية وعراقية وغربية أن إيران نقلت صواريخ باليستية قصيرة المدى إلى حلفاء شيعة لها في العراق.

وفي الأسبوع التالي قالت إسرائيل إنها يمكن أن تهاجم مثل هذه المواقع في العراق، وهو ما سيمثل بشكل فعال توسيعا لحملتها التي تتركز الآن في عدد من المناطق السورية.

وتوقع هايمان حدوث “تغيير مهم” في 2019 في سوريا التي هُزمت فيها فصائل المعارضة المسلحة بعد جهد عسكري سوري دعّمته روسيا وإيران وجماعة حزب الله اللبنانية. وقال هايمان “هذا الوجود لإيران مع عودة الاستقرار إلى سوريا تحت مظلة روسية شيء نراقبه عن كثب”.

ولا يقتصر تعاظم دور الميليشيات الشيعية في العراق، على الجانب الميداني والسيطرة على الأراضي بعد الحرب على تنظيم داعش، بل إنّ الحرب ذاتها أفرزت الحشد الشعبي كجسم سياسي متماسك دخل الانتخابات الماضية ضمن كيان عرف بـ“تحالف الفتح” يقوده زعيم ميليشيا بدر وأحد صقور الموالاة لإيران هادي العامري. وحصل التحالف ذاته على قدر مهم من مقاعد البرلمان (47 مقعدا) وتمكّن من تأسيس تحالف نيابي مع عدد من الكتل الأخرى تحت مسمى “تحالف البناء”.

ومن هذا المنظور سيكون بمقدور الميليشيات الشيعية التأثير على القرار السياسي العراقي وتطويعه وفق مقتضيات صراع النفوذ الذي تخوضه إيران في المنطقة.

وكنموذج عملي عن ذلك، لوّحت الفصائل الشيعية العراقية بتمرير قانون في البرلمان يلزم حكومة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي بإخراج القوات الأميركية المتواجدة على الأراضي العراقية. وبالنسبة لإسرائيل فإن قرارا عراقيا من هذا القبيل، يعني في حال اتخاذه بالفعل إخلاء الساحة تماما أمام إيران، ويعني بالنتيجة تعويل تل أبيب على قدراتها العسكرية الذاتية لمواجهة الوجود الإيراني ليس في سوريا وحدها، ولكن في العراق أيضا.