فتحت إشارة رئيس الجمهورية ميشال عون الى «المعركة السياسية» التي تخاض ضد العهد ومحاولات مَن يسعى الى «فرض أعراف وتقاليد جديدة» وجهاً من وجوه «الحرب الصامتة» بين بعبدا والضاحية الجنوبية على خلفية تمثيل نواب «سنّة 8 آذار». وعلى رغم المحاولات لإبقائها تحت الرماد، فإنّ الحديث عن «تفاهم لا تهزّه الريح» لم يعد مقنعاً. وعليه ما هي حظوظ أيّ مبادرة جديدة إن وُجدت؟ ومن أين يمكن أن تنطلق؟
 

يصرّ القريبون من بعبدا على توسيع «لائحة المتهمين» الذين قصدهم رئيس الجمهورية بعباراته القليلة التي اطلقها من بكركي قبيل قداس الميلاد. فلا يرضون بالقول إنه وجّه اتّهامه مباشرة الى «حزب الله» ولا الى «مجموعة نواب سنّة 8 آذار» فحسب.

وهم يصرّون على أنها «صرخة مدوية في وجه اكثر من فريق» يسعى الى تغيير القواعد الدستورية عند تشكيل الحكومات ومحاولات فرض آليات جديدة لم يشر اليها الدستور الذي حصر المهمة بالرئيس المكلف تأليف الحكومة في اعتباره شريكاً رئيساً في العملية بالتنسيق والتفاهم مع رئيس الجمهورية.

ولمجرد قراءة هذا الموقف العالي في شكله ومضمونه وتوقيته يظهر جلياً انّ الجزء الأكبر منه يعني توجيه الإتهام الى مَن نسف الصيغة الأخيرة للتشكيلة الحكومية التي كانت على قاب قوسين أو ادنى من صدور مراسيمها.

فعند التفاهم على تسمية الوزير السني السادس من فريق رئيس الجمهورية جواد عدرا ليكون مكمّلاً لهذا الفريق من جهة وإقفال مطلب تمثيل المجموعة النيابية السنية التي بدأت بالتفكك، اعتقد البعض أنّ الحكومة العتيدة باتت «هدية العيد» وليس هناك ما يعوق المسار الدستوري للعملية تمهيداً للانتقال الى مرحلة تحضير البيان الوزاري الذي بدأ الحديث عن مسودّاته الجاهزة.

وعليه، فإنه وأيّاً كان التفسير الذي يحاول المحيطون برئيس الجمهورية إعطاءه حول مَن هو المقصود باتّهامات رئيس الجمهورية، فإنّ التهمة وُجِّهت مباشرة الى فريق «حزب الله» ومجموعة حلفائه الذين عطّلوا الصيغة الأخيرة للحكومة. لكنّ هؤلاء أنفسهم لا ينكرون أنهم سهّلوا للفريق الآخر إعادة خلط الأوراق وسحب ترشيح عدرا لمجرد الحديث عن اعادة توزيع للحصص المارونية الحكومية، وبعض الحقائب العادية التي شكّلت الذريعة لتسهيل الخروج عن التفاهمات التي رعت الحلّ الأخير.

وبمعزل عن التفسيرات المتضاربة لما سُمّي «تفاهم جواد عدرا» وطريقة بلوغ اسمه المرحلة النهائية من السباق الى «الجنّة الحكومية»، يعترف البعض ممَّن كانوا على تماس مع المفاوضات والطروحات في اللحظات الأخيرة الخاصة بـ «الطبخة الحكومية» أنّ مثل هذا المخطط الإنقلابي على التشكيلة الحكومية الذي اشار بأصابع الإتهام الى «حزب الله» وحلفائه من «سنّة 8 آذار» لم يكن ليمرّ لولا بعض الأخطاء «القاتلة» التي ارتُكبت في اللحظات الأخيرة.

ولا يخفي هؤلاء أنّ من بين الأخطاء التي كان يمكن تحاشيها محاولة رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل في «اخطر اللحظات حراجة» اعادة النظر بالتوزيع الطائفي للمقاعد المارونية وسعيه الى استعادة وزير ماروني من حصة القوات اللبنانية أيّاً كانت الغاية منها، وإعادة النظر ببعض الحقائب العادية تحت شعار «فقدان التوازن» الداخلي بين حصص الأقوياء في التركيبة الحكومية. فقدّم «هدية مجانية» للفريق الآخر وسمح له بنسف التفاهم الأخير واعادة الأمور الى مرحلة سابقة قيل إنها أطاحت بما أُنجز من تفاهمات تمّ الإحتفاظ بسرّيتها لفترة سبقت انطلاقة مبادرة المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم التي أدّت ادوارها كاملة في افضل واقصر الظروف.

ويعترف هؤلاء عند الحديث عن حجم الخطأ المرتكب انه كان بإمكان باسيل إنتظار مرحلة تشكيل الحكومة لإعادة ترتيب تحالفاته الحكومية مع عدرا وغيره من الوزراء.

ولم يكن مقبولاً ما اقدم عليه من اعادة التلاعب بالحقائب جراء ما احياه من الخلافات السابقة مع اكثر من فريق. فالتركيبة الحكومية التي تمّ التوصّلُ اليها بـ «شقّ النفس» وفي ظلّ الظروف المحلية والإقليمية والدولية التي تعيشها المنطقة ولبنان، لم تكن تسمح بارتكاب أيّ خطأ كإعادة البحث بحقائب الأشغال والصناعة والثقافة والبيئة والزراعة، لما شكّلته من إحياء للخلافات السابقة مع معظم الأطراف التي تجمّعت على انتقاده والتي انعكست على مساعي الرئيس الحريري الذي تبنّى وجهة نظر باسيل - عن غير قناعة - في زيارته الأخيرة الى رئيس مجلس النواب نبيه بري، فكان ما كان من انتفاضة شارك فيها اكثر من طرف قبل أن يتبنّاها «حزب الله» وتحميل باسيل مسؤولية العرقلة في اللحظات الأخيرة.

عند هذه المعطيات الدقيقة والمتشابكة تقف الأزمة الحكومية الحالية. وإن كان المقرّبون من رئيس الجمهورية يراهنون أن يترك «موقفه القاسي» من بكركي ما يجب أن يتكره من ردات فعل ايجابية لدى الأطراف المقصودة، هناك خشية من أن يكون قد زاد الشرخ مع حلفائه قبل الخصوم. فـ«حزب الله» الذي يحاذر كشفَ أيّ خلاف بينه ورئيس الجمهورية ترك للمحيطين به توجيه الإتهامات الى باسيل وفريقه في ما تولّى آخرون توجيه الإنتقاد الى الحريري الذي تبنّى مواقف باسيل بخفر وهو ما انتج ردّ فعل سلبي تجاهه في عين التينة قبل الضاحية الجنوبية.

وبناءً على ما تقدّم لا يرى المراقبون أيَّ مردود ايجابي لنبرة رئيس الجمهورية القاسية وإظهار غضبه. ولن يؤخّر أو يقدّم صمت الحريري الذي «شاءه أبلغ من الكلام» فما خرّبته المحاولات الأخيرة اكبر بكثير ممّا يمكن الإستفادة منه واستثماره ايجاباً. وها هي العقدة الحكومية في حال سبات عميق قياساً على انقطاع الإتصالات بين المعنيين بها وغياب المبادرات. التي وإن كان البعض يعتقد بإمكان إحيائها من جديد فهم لا يدركون من أين يمكن أن تقلع من جديد وعلى أيّ أساس بعد فشل التجارب السابقة.