تعيش الصحافة في لبنان «على» المصادر. وربما يصحّ القول أكثر إنها تعيش «مِن» المصادر. وهنا تبدو الأزمة أكبر. ففي كل خبر أو تعليق أو تقرير أو تحقيق، المصادر حاضرة «في الخدمة»: «مصدر مطّلع»، «مصدر موثوق فيه»، «أوساط مقرّبة»، «مراقبون»، «متابعون» وعشرات الصِيَغ المصدرية الأخرى التي تغلي على صفحات الجرائد وألْسِنَة المذيعين.
 

الناس في لبنان اعتادوا «لغة المصادر» إجمالاً حتى إنهم غالباً ما صاروا «يقبضون خبرية» المصادر من دون أن يفكروا في مدى صدقيتها. لكن البعض ما زال يطرح السؤال بين حين وآخر: هل هذه المصادر التي يَنسب إليها الصحافيون أخبارهم ومعلوماتهم «حقيقية»، أو إن هؤلاء يختبئون وراء الصِيَغ الغامضة للمصادر، سعياً إلى التضليل أو التزوير أو المبالغة؟ 

في مكتبتنا اللبنانية، نادرة هي الأبحاث العلمية التي يمكن أن تروي العطش إلى فَهمِ ظاهرة «المصادر الصحافية». ومن هنا أهمية الكتاب الذي أصدرته أخيراً الدكتورة وفاء أبو شقرا، الزميلة الصحافية والأستاذة في كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية، تحت عنوان «عندما تتكلم المصادر»، عن دار الفارابي، والذي دعت إلى توقيعه في 15 الجاري في معرض الكتاب العربي، وقدَّم له الدكتور جورج صدقة عميد الكلية. 

الكتاب يعالج، استناداً إلى بحث ميداني مدعَّم بمقابلات شملت 24 صحافياً سياسياً لبنانياً، إشكالية المصادر الصحافية ودورها ووظائفها في الصحافة، خصوصاً أنّ تطوّر المهنة والدخول في العصر الرقمي، أدّى أيضاً إلى اختلاف مفهوم المصادر الصحافية وخصائصها ودورها وازدياد أهميتها. و»في الأساس- تقول الكاتبة- نواة هذا الكتاب هي مادة بحث أكاديمي (…). ثم قُمت بتوسيع البحث وتعميقه، بعدما تبيّنت لي ضرورة التقصّي أكثر في موضوع المصادر (…) إذ ظهر لي كم إن الدور الذي تلعبه هذه القناة المعلوماتية في إنتاج الصحافيين، كبير ومعقّد، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بطبيعة العلاقة التي تربط هؤلاء بمصادرهم المجهولة». 

تمهِّد الباحثة لكتابها بسطور طريفة من صفحة أحد الصحافيين «الظرفاء» في الـBBC، يَسخَر فيها من أساليب الإسناد المصدري التي يعتمدها صحافيّو الفضائيات العربية، «وهذا ما تعاني منه أيضاً وسائل إعلامنا في لبنان». ويقول هذا الصحافي ساخراً: «دفعتني الفضائيات الكريمة إلى التفكير بمستقبل أولادي والاختصاص العلمي الذي يضمن لهم عيشاً كريماً (…) ماذا لو حصل الأولاد على شهادة مراقبين؟ فالمراقبون يدلون بدلوهم بلا تردّد في أيِّ خبر: «يقول المراقبون»، و»يرى المراقبون» و»يوعز المراقبون» (…) ولا تقول لنا الفضائيات مِن أيّ برج مراقبة يراقبون، وكيف يشاهدون الصين من السعودية وأقاصي أميركا من بنغلادش، وهل لوكالة «ناسا» دور في تسهيل مهمتهم؟ كيف يكسبون عيشهم من المراقبة»؟

هذا المدخل الظريف يقودنا مع الدكتورة أبو شقرا إلى بحثٍ معمّق متشعّب وذي دلالات عميقة في مجال الصحافة، ولا سيما لجهة فَهمِ الصحافيين اللبنانيين لدورهم، وارتباط صحافتنا- كنسقٍ فرعي- بالنظام السياسي والاجتماعي والطائفي الذي هو النسق الكلي.

في الفصل الأول من الكتاب، عالجت الباحثة ماهية المصادر الصحافية ومصادرها وأنواعها، ولا سيما المصادر المجهولة والدوافع الكامنة وراء تجهيل المصادر. وفي الفصل الثاني سألت عن حيثيات التجهيل: هل هو حاجةٌ أو بدعة؟ ثم بحثت في علاقة الصحافي بمصادره وأضاءت على «تبييض المعلومات». 

أما في الفصل الثالث، الميداني، فدخلت في خصوصيات العلاقة بين الصحافيين اللبنانيين ومصادرهم. وأفردت حيِّزاً وافياً للعلاقة ما بين الصحافة اللبنانية والبيئة التي تتحرّك فيها: سيطرة رأس المال، النزعة الفئوية، غياب الحمايتين القانونية والنقابية، صعوبة الوصول إلى المعلومات، الاستخفاف بالتحقق من المصادر، غياب السياسات التحريرية الواضحة، تبعية الصحافيين المطلقة لمؤسساتهم، انعدام الحيادية والاستقلالية وضغوط المال. 

وفي الخلاصة، يتبيّن أن «المصادر الصحافية التي هوى بفضلها، ذات يوم، رئيس أميركي عن كرسي البيت الأبيض، وفُضِح مسؤولون كبار، وحوكِم خارجون عن القانون (…) أمست عند أهل الإعلام في لبنان (والأوساط القريبة والمقرّبة منهم)، موضوعاً للتندّر، وأحياناً للسخرية. بل أخطر من ذلك، بات التشكيك جدياً جداً في صدقية المعلومات المُساقة في النصوص الصحافية اللبنانية، تحت مسمّى فضفاض: «المصادر». حتى إن بعض هذه المصادر يدفع إلى الاعتقاد بأنه مختلق بالكامل، ومن نسج خيال الصحافي، ولا سيما عندما لا يكون هناك مِن داعٍٍ أو حاجة إلى التلطي والتواري وراء القناع المصدري».

«التضخّم المصدري» لا يعني بالضرورة ازدهاراً وغزارة في ضخّ المعلومات». هذا ما تستنتجه الباحثة. ولذلك، فإنّ «الإفراط والعشوائية والاستخفاف في استخدامات المصادر تستدعي تحرّك المختصّين والباحثين وأصحاب المؤسسات الإعلامية (...) وتستدعي من الصحافيين أن يستنفروا كل دفاعات المهنة، المرتكز على «خلق المسافات»: مع الذات (الموضوعية) ومع النصّ (الحيادية) ومع السلطات (الحرية) ومع المصالح (النزاهة) ومع المصادر (المصداقية)». وتالياً، لا بدّ من «إعادة الاعتبار إلى الكثير من المعايير المهنية في العمل الصحافي اللبناني، ومنها ما يتّصل بالإسناد المصدري، وفق نظرة عملية حديثة في ضوء تبلور مناهج التأهيل والتدريب للصحافيين».

يذكِّرنا كتاب أبو شقرا كصحافيين بما نحن غارقون فيه من فوضى في معايير المهنة، ومنها معايير الإسناد المصدري. لكنه، في مدى أوسع، يذكِّرنا كلبنانيين بأنّ فوضى الإعلام ليست سوى إسقاط تلقائي لـ»الفوضى المجتمعية» في نظام سياسي واجتماعي وطائفي مريض، بحيث يصبح لزاماً طرح سؤال أكبر: هل من المقبول أن تكون الصحافة ضحيةً لمجتمعها أم عليها أن تكون مُنقِذاً له؟ وإذا كان دور الصحافة أن ترضخ للواقع القائم وأن تضطلع بدور الخادم لذوي السلطة والمال والطوائف، فمَن يؤدّي الدور الريادي الذي كان مطلوباً منها أساساً؟