في حين تجدّد الغموض في شأن تشكيل الحكومة، بدأت تتوضّح أكثر فأكثر المشكلات الاقتصادية والاستحقاقات التي تواجه لبنان. ولكنّ هناك اتّفاقاً واسع النطاق على أنّ لبنان ثالث أكثر الدول مديونية في العالم يحتاج الى إصلاح مالي لمساعدة الاقتصاد وتقليل الاعتماد على عمليات البنك المركزي والتلاعب بالفوائد.
إذا كانت الفوائد المرتفعة مناسبة للمدخرين، إلّا انها تكبّد اقتصاديات الدول ضغوطات تتمثّل في تراجع الاستثمارات، السياحة، تراجع قطاع العقارات الذي دخل في عنق الزجاجة خصوصاً بعد وقف القروض لأسباب بات يعرفها الجميع.
 
وإذا كان رفع الفوائد مناسَبة لجذب رؤوس الاموال إلّا أنه يكبّل المودعين ويحدّ من عمليات الاستثمار لا سيما أنّ قروض المصارف غير سهلة ومعقّدة وفوائدها عالية ما يعني أنّ الادخار لا يتّجه في عملية اقتصادية نحو الاستثمار، وليس مستغرَباً أن يخفّ النشاط التجاري في ظلّ عدم الثقة بالوضع السياسي والتغيّرات الناتجة عنه لا سيما وانّ عدد المؤسسات التي أغلقت ابوابها لغاية الآن بات يتزايد بشكل لا يوصف.
 
وفي الواقع، يبدو الوضع اللبناني متشعّباً ومشكلاتنا كثيرة لا سيما أزمة الديون والفساد (ولبنان يحتلّ المرتبة 72 من بين 113 بلداً من حيث القيود على سلطات الحكومة و87 في غياب العدالة) والأزمة السورية التي واجهناها انعكست سلباً على الوضعية اللبنانية وتراجع معها النموّ من نسب كانت مقبولة وجاورت الـ 8 بالمئة الى نسب لا تُحتمل وقد اصبحت 1 و2 بالمائة.
 
هذه الامور أضف اليها عجز الميزانية والذي يعادل 10 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي والجهود التي تبذلها الحكومة من اجل تمرير الميزانية لعام 2019 كلها لن تستطيع أن تعيد الثقة الى اللبنانيين.
 
أضف الى ذلك استحقاقات تتوجّب قريباً على الدولة منها معاشات تقاعد ونهاية خدمة وفروقات والتي علينا مواجهتُها بشكل دقيق في ظلّ غياب الخيارات الاخرى، علماً أنّ منافذ الامل لاتزال بعيدة كالتنقيب عن البترول وإعادة إعمار سوريا.
 
لذلك تبدو هذه الفترة دقيقة للغاية وقد يكون هذا الوقت هو الاصعب منذ أكثر من 40 سنة وفي غياب سياسات مالية ونقدية واقتصادية وانعكاساً لقرارات اتُخذت دون تأمين مواردها ولكن كونها ضرورية.
 
والسؤال الذي يبرز للعيان: كيف يمكننا حلّ مشكلاتنا لا سيما وأنها تفاقمت وقليلون الذين لاحظوا مدى خطورة الوضعية وفي ظلّ غياب سياسة اقتصادية متكاملة يتفق عليها الجميع في انتظار خطة ماكنزي التي لا حياة لها ما لم يتمّ تشكيل الحكومة والسير بالإصلاحات- لذلك وفي الواقع إنه ناقوس الخطر وعلى السياسيين إدراك ذلك والتوقف عن التناحر على منصب وزاري وتأمين تشكيل الحكومة.
 
هكذا أصبحنا نبدو كاليونان مالياً واذا كانت اليونان وبقاؤها حيوياً لمنطقة اوروبا، فإنّ وضعية لبنان مختلفة لكنها لا تقل خطورة، وايرادات الحكومة لا تواكب الإنفاق وفي ظلّ ميزانية اصبحت في معظمها لخدمة الدين العام ودفع الرواتب ووضعية الضباط المتعاقدين وسنين الخدمة والمعاش التقاعدي، الأمر الذي يحتّم على الدولة زيادة في الديون ويزيد على عجز الخزينة ويقوي الفارق بين مداخيل الدولة ومصاريفها ويزيد العجز في الميزانية (هذا مع العلم أنّ العجز في الميزانية اصبح اكثر من 10 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي).
 
لذلك نرى أنّ الصورة الإقليمية والداخلية تشكّل عامل ضغط على الوضع اللبناني في ظلّ انعدام رؤية اقتصادية وسياسية لمعالجة شؤون اللاجئين وعودتهم السريعة الى بلادهم إلّا أنّ الديناميكيات التي يشهدها لبنان اليوم تفاقمت بشكل غريب وأصبحت تشبه إلى حدٍّ بعيد تلك التي سبقت الحرب الأهلية ومع فوارق اجتماعية واقتصادية باتت أكثر عمقاً.
 
ومع محاولات تسييس عودة اللاجئين الى ديارهم إن كانت طوعية أو إجبارية فالخيارات غير متاحة إنما النبض اللبناني يحتّم علينا الإسراع بهكذا عملية لا سيما وأننا بتنا لا نحتمل حضورهم في هذا البلد. الشيء الوحيد المتبقي والذي يعمل لمصلحة لبنان هذا انه لم يعد حلبة رئيسة تجرى عليها محاولات تغيير موازين القوى الإقليمية الّا انّ الضغوط الكبيرة على الاقتصاد والبنية التحتية جاءت نتيجة حتمية للنزوح السوري لا سيما قطاع الكهرباء الذي كلف الدولة حوالى 222 مليون دولار في عام 2017 وقد يكلفها ما يساوي 500 مليون دولار في عام 2018.
 
كلها امور تشكّل لوحة مضطربة الالوان، يضاف الى ذلك الوضع السياسي المتفاقم والذي بدأ منذ خمسة أشهر وهم يحاولون تأليف حكومة وفك عقدها المتتالية وكأنه كُتب لنا أن نكون في حالة جمود قسري ريثما ينتهي التجاذب بين القوى الإقليمية والدولية. والامر الاكيد انّ آخر العقد قد تكون اقليمية أكثر منها وطنيه ما يعني أننا وللأسف لا نزال موطناً لهذه التجاذبات.
 
من المرجّح أن يكون الوضع الاقتصادي دقيقاً جداً في حال لم تُحلّ مسألة تشكيل الحكومة، لا سيما وانّ لبنان والمموّلين والمانحين لا يمكنهم الانتظار أكثر من ذلك. مع العلم انّ الوعود السابقة التي قدّمناها للمانحين في باريس من خصخصة وتخفيف مصاريف وزيادة ضرائب كلها انهارت وزادت ديونُ لبنان بشكل خيالي.
 
لذلك يبدو أنّ لبنان ليس في أزمة مالية انما يواجه أزمة سياسية، حتى في تفاصيل الملفات كالكهرباء والنفايات قد لا ينهار اقتصادياً انما تبقى حركته مشلولة و لا سيما أننا في دوامة.
 
ومع هذا لا يمكن التنبّؤ بما سوف يحدث الّا انه من الأكيد اننا نتجه نحو ركود وتراجع في النموّ وزيادة في البطالة وتدنٍ في مستوى المعيشة دون وجود حلول، وفي غياب مجلس وزراء يأخذ القرارات. 
بروفيسور غريتا صعب*