يلاحظ، في معظم أنحاء العالم، تفشي الفساد والخبث وغياب الثقة والتشاؤم والشعور بالعجز والشعبوية. لكن لبنان تمكن من تصدر الدول جميعها، إنه من بين الأكثر فسادا؛ بعد أن بلغ الفساد مستوى مخيفا وغير مسبوق. لإظهار حجم المشكلة متعددة الجوانب سأورد عينة بسيطة من عناوين الصحف مؤخرا:

"2 مليار دولار العجز السنوي لمؤسسة كهرباء لبنان"؛ وهي غير مؤمنة للمواطن.

"نسبة التلوث تجاوزت 70 في المئة في المياه اللبنانية".

"90 في المئة من المياه المعبأة مصابة بالتلوث".

"المياه: فاتورتان وتلوث".

"النفايات: محارق مسببة للسرطان، المحارق السرطانية".

"كأنك تتنشّق موتك...".

"المطار.. ثقب أسود"

"مقدمو الخدمات البديلة ينقلبون على الدولة بعد تنامي سلطتهم والقوى السياسية أمنت لهم الغطاء فتعاظمت قوتهم وقدراتهم".

باختصار يلخص هذا العنوان في جريدة النهار لسان حال اللبنانيين: "اللبنانيون يحلمون بالعودة 50 عاما إلى الوراء الكهرباء، المياه، النفايات، النقل: أزمات قديمة كبّدت لبنان المليارات لتبقى!

أما مسك الختام فـ: "القمع وكم الأفواه".

لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن المواطن الذي طفح به الكيل، لا يزال بالرغم من كل ذلك مستكينا وخامدا. فما الذي يكبله؟ لم لا يتحرك لمواجهة المشاكل المتفاقمة؟ هل هي من خصوصياتنا الثقافية؟ على ما درجت الأدبيات الثقافوية الغربية بوصف "العقلية الشرقية" التي تتسم "باللاعقلانية والطفولية، والاستبداد!".

تكمن المشكلة في مكان آخر وليس في إلصاق الصفات الأبدية على الشعوب.

للأسف، ربما علينا الاعتراف بداية أنه لم يعد ممكنا شن حملة فعالة ضد الفساد الذي انغرز في العملية الاقتصادية والسياسية وصار جزءا عضويا فيها. فالأنظمة الضريبية غير العادلة تدفع المواطنين إلى البحث عن الحيل والطرق التي تمكنهم من التهرب من الضرائب وتزوير الحسابات. كما أن مستويات الأجور المتدنية التي لا تتناسب مع مستوى المعيشة، تشجع الذين يشعرون بالظلم على قبول الرشوة وعلى الغش الجبائي.

اقرأ للكاتبة أيضا: لماذا نسكت عن البذاءة؟ لماذا نقبل بالعبودية؟

عمليات الرشوة لم تعد تقتصر فقط على الموظف العام، كما كانت العادة، تطور حجم جرائم الرشوة والمبالغ المخصصة لذلك على المستوى الوطني وعلى مختلف المستويات وفي جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية. فالصفقات التجارية والاستثمارية المريبة وغير المشروعة بمليارات الدولارات صارت علنية في ظل غياب القدرة على المحاسبة وعدم تطبيق القوانين أو تطبيقها انتقائيا. ما أنتج مافيات فاقمت من سوء الأداء الاقتصادي. ناهيك عن صفقات استيراد مواد غذائية وأدوية فاسدة؛ إنتاج المخدرات على أنواعها والمتاجرة بها وتصديرها عبر المرافئ الشرعية. إضافة إلى التهرب الجمركي والرشوة والربح السريع.

لكن السؤال ما هي الآليات التي أوصلتنا إلى هنا؟

يدخل المواطن يفقد ثقته بالدولة وبالقانون لأنه لم يعد يحصل على حقوقه سوى باستخدام نفوذ صاحب السلطة أو بالرشوة، أو أنه سيدفع الثمن خسارة أو عقوبة، يدخل منظومة الفساد هو أيضا.

فهل سيتمكن الوالد من تسجيل طفله في مدرسة ما دون واسطة؟ هل سيتمكن من الاستفادة من خدمات وزارة الصحة أو الشؤون الاجتماعية دون واسطة؟ هل سيجد وظيفة؟ هل سيتمكن من الالتحاق بالمؤسسات الأمنية والعسكرية؟ هل سيخرج موقوف من النظارة دون تدخل؟ وقس على ذلك.

المفارقة المحزنة أن مخالفة القوانين صارت واجبة على اللبناني للحصول على الحقوق التي تحفظها له هذه القوانين.

الحقوق حبر على ورق لا تفعّلها سوى "الواسطة"، بوابة الزبائنية السحرية. لقد انهارت أنظمة القيم التي تشكل العقد الناظم بين اللبنانيين. ويتفشى الشعور باليأس والإحباط وانعدام الأمن.

لكن هذا لم يحصل فجأة! فالدولة في لبنان لم تكن في يوم من الأيام عادلة فعلا، ولم تتوجه إلى "مواطن" بشكل حقيقي. فهي تتعامل مع اللبناني كعضو في طائفة وليس كمواطن. وهي لم تكف، حتى في عزّها، عن جذب الولاءات السياسية عن طريق توزيع الخدمات والثروات والمراتب.

تلحظ القوانين اللبنانية حصصا للطوائف وجمعياتها ومؤسساتها ومساعدات مالية من وزارات الصحة والتربية والشؤون الاجتماعية، بدل أن تقدمها للمواطنين مباشرة عبر مستوصفاتها ومدارسها ومستشفياتها. إنها تعين الطوائف، كي تربط المواطن بمتنفذي الخدمات هؤلاء وتبعده عن مواطنيته وولاءه للدولة وللجنسية التي يحملها.

تضمّن مشروع قانون موازنة العام 2017 ـ عام التقشف ووقف الهدر ـ الكثير من أبواب الإنفاق التي يشكل بعضها هدرا بمليارات الليرات؛ كان يمكن تجنّب هذا الإنفاق بسهولة!

إنه قانون الغنيمة في تقسيم ما تحصّله الدولة وإعادة توزيعه على الجماعات كل حسب قربه منها أو حاجتها إليه أو من أجل "شراء سكوته".

أثناء الحرب، وبسببها، برزت هذه الصفات بشكل فاحش. تحوّلت الدولة إلى الجباية، وأهلها إلى تجار وجباة ضرائب. لكن "زمن السلم" زاد الطين بلة بفعل قوى الأمر الواقع المستقوية على الجميع.

يؤدي ذلك إلى شعور بالظلم وبالقهر وانتفاء العدالة! وعندما يشعر المواطن بأن الدولة تسرقه، كيف سيتصرف بالمقابل؟ ألا يبرر لنفسه حينها السرقة والفساد!

تحولت الحقوق إلى خدمات يؤمنها السياسي فيمنح الوظائف والرواتب الخيالية لأتباعه ليحصل في المقابل على ولائهم الأبدي و"بالروح، بالدم نفديك". كما أن هذا الولاء يورث لأفراد عائلاتهم. كل هذا يزيد من تبعية المواطن ويعمق الولاء الشخصي للزعيم الذي يعمل على صيانتها.

وهذا ما يشكل مفتاح الاستتباع وجعل أمور الدولة وشؤون المواطن نوع من خدمات خاصة في دائرة يديرها "مفاتيح سياسية" وزعامات ومناطق وطوائف. فمن أين ستأتي قوة ممانعة ورافضة؟

اقرأ للكاتبة أيضا: تحديات الثورة الرقمية وانعكاساتها

إذا كان كل مواطن، عموما، مستفيد بشكل أو بآخر من خدمات أحدهم "الشخصية". تنعدم القدرة على مواجهته؛ يقول المثل الشعبي "العين لا تعلو على الحاجب". يترجم لبنانيا بسيادة المهادنة وتغييب المساءلة، فيخضع المواطن شاعرا بالمرارة والإجحاف أو بعدم سوية الأمور. لقد تم تخجيله وبمعنى آخر إسكاته.

الجميع يمارس عادة "قبّل اليد وادع عليها بالكسر". إنها الازدواجية السلوكية وتدبير الحال. فهل ثمة فساد وإفساد أكثر من ذلك؟ أوليس هو الوجه الآخر للاستبداد؟ كتب الكواكبي في مطلع القرن عن الاستبداد ما يلي:

"إن الناس وضعوا الحكومات لأجل خدمتهم، والاستبداد قلب الموضوع، فجعل الرعية خادمة الرعاة فقبلوا وقنعوا".