أسفي على حال أهل هذه المدينة كيف يخسرون ذاكرتهم (بل أطلالهم أيضا) عبر القضم بالمفرق
 

ساقتني قدماي اليوم هربا من زحمة السير، الى منطقة وطى المصيبة حيث مدرستي القديمة مار الياس الجديدة. نظرت الى مبانيها المهجورة فحملتني الذاكرة إلى أيام طفولة خَلَت. كانت أيام قتال وحروب طائفية قذرة ومدمرة للمدينة بشرا وحجرا، لكنها في المقابل كانت تحمل بجعبتها بعضا من الذكريات الجميلة، ألا يقال أن كلّ منصرم جميل؟

وقفت عند حدود المبنى السكنيّ المجاور، أسترق النظرات الى داخل الملعب الذي استبدل النباتات البرية في زواياه بالطلاب. حتى الصفوف هي الأخرى تخلّت عن المقاعد لصالح الركام والعَجاج. 

شريط أحداث مرّ بذهني كالبرق، حملني بعيدا  ثم قذفني في رحم تفاصيل ما كنت لأتذكرها لولا تلك الزيارة، تفاصيل زرعت داخل مغاص مقلتي دمعتين. دمعة فرح لذكريات استرديتها ولو عبر الركام بصدفة عابرة، ودمعة حزن حارقة على ما آلت إليه حال مبانينا العريقة وخصوصا مدارسنا في بيروت!

تذكرت على بعد أمتار عن المدرسة مبنى جريدة المستقبل العريق في الرملة البيضاء الذي كان يوما بُعيد اتفاق الطائف، مقرا موقتا لرئاسة الجمهورية. دُمّر هو الآخر لصالح التطاول في البنيان.

تذكرت ضمنا مدرسة "كرمل سان جوزيف" في فردان، التي مُحقت هي الاخرى، واستُبدلت بمركز "الف، باء، ثاء" التجاري. تفهّمت وتوقعت حزنا مفترضا لخريجيها، تقمصت شعورهم بالتعبير عن خسارة ذكرياتهم هناك. عشت لحظة مرورهم بها أغرابا، وكيف يمكن أن يشيروا لأولادهم بالسبابة الى مطعم عبد الوهاب أو لينا أو بولس، أو محل "أيشتي" أو "بوس" أو "رالف لورن" ويقولون لفلذات أكبادهم: هنا كان صفّي، وهناك كان ملعبنا، أو هنا كنا نلهوا او ندحرج كرة في حصة الرياضة!!

أسفي على حال أهل هذه المدينة كيف يخسرون ذاكرتهم (بل أطلالهم أيضا) عبر القضم بالمفرق. تذكرت تزامنا الحديث الدائر عن مأساة مدرسة ليسيه عبد القادر التي تملأ أخبارها الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي والرسائل النصية ومجموعاتها، هي الأخرى نتهيأ لخسارتها حسبما يُحكى. مبنى تراثي اضافي قد يُنحر قربانا لحساب التجارة والاستثمارات!

ترددت كثيرا قبل خطّ هذه السطور، فلصاحبة الشأن (هند رفيق الحريري) الحرية المطلقة بتِلادها وليس لنا الحق بالتدخل، خصوصا أن البيعة تحترم القوانين المرعية، لكن في المقابل ألا يحق لنا أن نسأل أنفسنا بصفتنا أبناء هذه العاصمة: إلى أين؟؟ 

نعم، إلى أين؟ على طريقة وليد جنبلاط الذي أصاب حينما طالب بلدية بيروت بالتدخل لحل النزاع بين إدارة مدرسية لا تبالي وتتعامل مع طلابها كأنهم أثاث منزلي أو فرش مكتبي يسهل نقله من هنا الى هناك بلا أي حساب إنساني، ومالك جديد مفترض ومعلوم مجهول وكأنه يعلم هول الصفقة فارتأى أن يبقى أنونيموس (غير معروف إن حصلت الصفقة أو بعد، كما أن الشاري مازال مجهولا، إذ يقال تارة أنه وسام عاشور وطورا أنه جهاد العرب). 

نعم، فلتتدخل البلدية وتستملك المبنى التراثي وتحافظ عليه. فلتتدخل كما يجب، ولتضع أموالنا الضِمار، ولو لمرة واحدة، في مكانها المناسب حفاظا على ذاكرتنا البيروتية! 

ربما يد البلدية مغلولة الى عنقها، لا تملك مبلغ 170 مليون دولارا (حجم الصفقة حسبما يشاع)، لكن حتما لا يصعب عليها بَغي شؤوننا عوجا، فتراها تستمتع بخلاقنا فتسرف وتبدّد ما تقتطعه من جيوبنا رسوما وبدلات على زينة بائرة لميلاد ورأس سنة ورمضان وأضحى من أشجار وفوانيس ودمى على شكل خواريف صامتة تشبه جُلّنا نحن، فاقدو المَحَالة في التعامل مع عاصمتنا بيروت!

(عماد الشدياق)