بعد خمسة أشهر على الانتخابات التشريعية التي اعتُبر إجراؤها بعد تأجيل دام خمس سنوات "إنجازاً"، تجري المحاولة في الأيام الأخيرة لتمرير حكومة، وإذا كان التفاؤل بهذا الصدد قد ارتفعت نسبته الأسبوع الماضي، ليصاب المتفائلون بالخيبة في عطلة نهاية الأسبوع، وبروز عقدة "وزارة العدل"، فإن بداية الأسبوع الحالي تقدّم تحت عنوان "محاولات الحلحلة".

يأتي كل هذا التقلّب في التوقّعات، والذي يستمرّ هكذا إلى أن تتشكل الحكومة العتيدة، في ظلّ محاولات لربط الزخم المتجدّد لمفاوضات التشكيل مع المناخ السياسي الإقليمي والدولي هذا الخريف. لكن هذا المناخ ما زال غامضاً، ويوحي بمسارات مختلفة ومتناقضة، عشية الانتخابات النصفية الأميركية مطلع تشرين الثاني المقبل، التي تُشكّل بداية العدّ التنازلي للمواقعة الإنتخابية الأميركية الكبرى، في رئاسيات 2020.

ما بين الإنتخابات التشريعية اللبنانية وتلك النصفية الأميركية تبدو حال الحكومة اللبنانية معلّقة، لكن أيضاً يظهر الخوض في القضايا السياسية الداخلية أشبه إلى حال الكبوة والركود. وهذا يتصل بشكل أساسي بأن سائر القوى، صعّدت هنا أو لانت هناك، لا تزال في غمرة التفاوض على التشكيلة الحكومية، و"كل شيء ممكن" بالنسبة لها في نهاية التحليل إلى أن تقوم الحكومة العتيدة، ولا يمكنها أن ترسم لنفسها سياسة محدّدة، وخطاباً سياسياً محدّداً، يميّز الأقرب عن الأبعد، ويحدّد الأهداف المباشرة، قبل تشكيل هذه الحكومة، أو افتراضاً، انتهاء التفاوض بشكل سلبي للغاية، في المقلب الثاني من الاحتمالات.

هذا وضع يفرضه التفاوض على تشكيل الحكومة، وعلى الحصص، انطلاقاً من الاتفاق على انه ينبغي ان تضم الحكومة اوسع قدر من التمثيل داخلها، بكل مفارقات ذلك بالنسبة الى مفهوم الديموقراطية البرلمانية نفسه. كأنّما المعيار الوحيد في الوقت الحالي لتحديد من هو الأقرب لك عن الأبعد لك سياسياً هو معيار الحصة الوزارية للفريق الذي تحازبه أو تواليه. كأنما السياسة "الفعلية" مؤجّلة إلى ما بعد ذلك، وهي كانت قبل ذلك مؤجّلة إلى ما بعد الإنتخابات النيابية نفسها، لأن هذا الإستحقاق المفترض أنه السياسة بامتياز في أي بلد تُنظّم فيه انتخابات حرّة تنافسية بالحدّ الأدنى، خيض على أساس أن القانون الإنتخابي، بالنسبية والصوت التفضيلي، يقدّم الاعتبار "التمثيلي" على اعتبار "الموقع السياسي" نفسه، ويوجب التحالفات المزركشة، التعاقدية بين أطراف لا يجمعهم جامع في السياسة، كي يتعاونوا على الوصول معاً، بمثل ما يفتح المجال لمن هم في الخط الواحد، لشطب بعضهم البعض بـ "الصوت التفضيلي".

ليس سوياً أن تكون السياسة قد أجّلت بعد الانتخابات، ثم وبما أنه لم تتشكّل حكومة بشكل سريع بعد الانتخابات، ودخل الجميع في التفاوض على الحصص الحكومية، أن تكون السياسة قد أجّلت إلى ما بعد التشكيل أيضاً. لكنه في الوقت الحالي واقع الحال، ومحاولات "بعث السياسة" بإعادة التأشير الى خطوط الانقسام الأعمق، تجري هنا وهناك، صحيح، لكنها لا تشكّل استثناء على القاعدة، بل الاستثناء الذي يستكمل القاعدة، قاعدة أن السياسة حتى إشعار آخر هي التفاوض على الحصص، أي أنّها "غير سياسية"، من جهة أنها غير مرتبطة بخطابات سياسية مختلفة، وخيارات سياسية مختلفة، داخلياً وخارجياً، باستثناء "اعطني حصتي، اعطيك حصتك".

ويتداخل هذا مع اتساع رقعة "الامتثال" مع الأوضاع القائمة، وتهميش المقاربات النقدية القائمة على ربط الركود السياسي في الوضع اللبناني بـ "الشقاء العربي" الراهن، إذا ما استعدنا عنوان كتاب سمير قصير "تأملات في شقاء العرب"، وهو شقاء تضاعف مع فشل الإنتفاضات الشعبية العربية في التقدم بإتجاه الديموقراطية بشكل مصمم وقادر، وتضاعف أكثر مع صعود الموجات المختلفة للثورة المضادة ضد الربيع، الذي لا يمكن اختزاله في بعد دون آخر، والذي ظهر أنّ لبنان، وان استطاع الحفاظ على حد أدنى من الاستقرار مقارنة بالحريق الهائل في الإقليم، إلا أنّه لم يتمكن من النأي بذاته عن مناخ الكبوة الشامل، المتأتي من ضمور وعود الديموقراطية وظهور أشكال مختلفة من معزوفة "الديكتاتورية هي الحل" بشكل واسع النطاق. إنها السياسة المجتنبة للسياسة، المجتنبة لإعادة خوض معركة الديموقراطية، في أي مندرج من مندرجاتها، والبقاء في قيد سياسة "التفاوض المستدام على الحصة"، و"ديموقراطية الحصص".