شارل، أعذرني لأنني أكتب لك بالعربية، فنحن اللبنانيين صحيح أننا فرانكوفونيون، ولكننا في غالبيتنا نعرف من الفرنسي «دَيْنتو» ولا نتقن اللغة سوى في الكافيه تروتوار والمولات والنايتكلوبات، أو في أبعد تقدير بجملة تحت صورة سيلفي أمام برج «إيفل»...

وعلى كلّ حال، الرسالة ليست موجّهة لك، وإنما أريد منك إيصالها إلى وديع وصباح ونصري وملحم وعاصي ومنصور وزكي وفيلمون ورفاقهم، لأنّ الله بالتأكيد قد حجز لكم في نفس الجناح في مكان ما في العالم الآخر، ولا شكّ أنك ستلتقي بهم وستتذكّرون سوياً كيف كان عمركم البارحة 20 عاماً، وكيف مشيتم مشواركم الفنّي ولعبتم كالأطفال بإبداعاتكم.

طلب أخير قبل رحيلك، أبلغهم في جلساتكم أننا في لبنان ما زلنا لا نتقاتل على وزارة الثقافة، ولا أحد من الأفرقاء مستعدّ لتعطيل البلد وشلّه من أجلها... لأنك كما تعلم، ليس في هذه الوزارة أموال وسلطة وخدمات، وليس فيها سوى ثروات أدبية وفنيّة وموسيقية وإبداعية، ولا شيء أكثر من كنز حضاري وتاريخي وتراث عمره آلاف السنوات لم يتعلّموا حتى اليوم كيفية نَبشه واستغلال مجوهراته ليرصّعوا بها صدر وطن مخنوق من كثرة الإهمال.

لو سمحت أخبرهم أنّ دولتنا مستمرّة في اعتماد تسعيرة وسام الأرز من رتبة فارس الموحّدة لكل فنّان يموت على أراضيها، ولا تقصّر في إيفاد ممثل عن رئيس بلدية المنطقة التي ولد فيها الفنّان الراحل إلى جنازته.

يا مقهور يا أزنافور، صدّقني انّ هذا الكلام ما كنّا لنتذكّره لو لم نلمس بأعيننا هيبة مأتمك الرسمي والشعبي والوطني على الشاشات العالمية... ما كنّا لنتذكّره لو لم نضع إصبعنا على صورة إجتمع فيها لوداعك 3 رؤساء جمهورية فرنسيين، ماكرون وهولاند وساركوزي، ورئيس أرمينيا ورئيس وزرائه، وإلى جانبهم، اليمين واليسار والموالاة والمعارضة والوزراء والنوّاب والمسؤولون والجيش والشرطة والمشاهير والفنانون والإعلاميون والفرنسيون، الذين وقفوا لساعات إجلالاً لنعشك.

أخبرهم لو سمحت أننا خجلنا من أنفسنا من كلّ هذا الاحترام لموتك، وشكرنا الله أنّ أهلك هاجروا إلى فرنسا بدلاً من لبنان، لأنك لو كنت أبدعت بيننا وعلى إذاعاتنا ومسارحنا، كنّا بالطبع تجاهلنا مرضك في آخرتك وحرصنا على أن تكبر مقهوراً، وترحل منسيّاً مثلك مثل الذين ستَتلو عليهم هذه الرسالة.

نعلم أنك كنت تحبّ لبنان، لكن إيّاك أن تصدّق أننا سنحبّك أكثر مما أحببنا هؤلاء العمالقة الذين صنعوا مجد الأغنية اللبنانية وموسيقاها... فمنهم من يملك صوتاً أجمل من صوتك وإرثاً أكبر من إرثك وأغنيات أكثر من أغنياتك، لكننا حزينون على ابنتهم الأغنية اللبنانية أكثر من حزننا على رحيلك، فنحن نراها تحتضر بإهمالنا لذكراهم، وبدل أن تستلقي على التخت الشرقي ها هي تلفظ أنفاسها الأخيرة على فراش الموت، ولا تجد مسؤولاً يزورها أو يمشحها أو يبحث عن علاج لإنقاذها.

أتى الفرنسيون إلى لبنان ورحلوا، ولم نحفظ من مخلّفاتهم إلّا عصا المفوّض السامي وجزمته، وشوية كرواسون وجامبون وأسبيرج... لأنّ أخلاقهم في التعاطي مع الفنانين وتقديرهم للمبدعين لا تضمن لنا الكراسي والمناصب، ولا تجمع الطائفيين تحت أرجل سياساتنا، فاستغنينا عنها بشكل تام وركلنا واجباتنا تجاه أولئك الذين يصنعون مجد الأوطان بالفنّ الخالد، من أجل عيون الكراسي المخملية الحمراء الزائلة، ومن أجل إرثٍ نخجل من تدوينه ليس في كتاب التاريخ وإنما في روزنامة على حائط مطبخ.

كانت مؤثّرة للغاية ألوان العلم الأرمني وموسيقى بلادك الأمّ التي فرضت نفسها عنواناً للاحتفال الرسمي المهيب، فذكّرتنا أنك وُلدتَ أرمنياً ورحلتَ أرمنياً بعد أن صنعت مجدك بالفرنسية... وأمّا نحن، فيولد المبدعون عندنا لبنانيين ويصنعون مجدهم باللبناني ويرحلون غرباء.