يعيش لبنان على إيقاع مد وجذر التجاذبات السياسية الحكومية أما الاقتصاد فمتروك لقدره
 

أيام ويدخل التشكيل الحكومي شهره الرابع، لا شيء في الأفق السياسي المفتوح على كل الاحتمالات ينبئ بفرجٍ قريب، وحدها متاريس الحصص تارةً ومتاريس العلاقات الخارجية بين الأفرقاء تارةً أخرى تسيطر على المشهد، الذي ما دونه عقدٌ تبشّر أن طريق التأليف غير ميسّرة في القريب العاجل.

يجمع معنيون في التشكيل ومن بينهم صنّاع العقد أنفسهم على ضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة، ويضعون التحديات الاقتصادية في مقدمة قائمة الأسباب الموجبة لتأليفٍ سريع، هذا في الشكل أما في المضمون "فالمياه تكذّب الغطاس" ونسج العقد يفضح سياسيي لبنان ويعكس نياتهم الخبيثة تجاه العرقلة، بينما يدخل الوضع الاقتصادي في المحظور كلما تأخر التأليف.

وبينما يعيش لبنان على إيقاع مد وجذر التجاذبات السياسية في الموضوع الحكومي، تترك الكتل النيابية الاقتصاد "اليتيم" ليواجه قدره، إما لجهلٍ لدى هؤلاء أو لتجاهلٌ متعمّد، وفي الحالتين هناك أمر واقع ينذر بغرق سفينة لبنان الاقتصادية. وعلى مبدأ أعذِر من أنذَر، يحاول أهل الاختصاص، والمتخوفين على اقتصاد البلد فعلاً لا قولاً، تذكير القيّمين بضرورة الالتفات للوضع الاقتصادي المأزوم، ولا يكتفون بالتذكير، بل يقدّمون الحلول اللازمة للخروج بلبنان نحو بنية اقتصادية تليق به، ولكن... على من تقرأ مزاميرك يا داوود، ففي هذا البلد صمّ الفساد الممنهج أسماع أهل القرار وأعمت الصفقات بصرهم.

فاعتاد هذا اللبنان الصغير على صنع الثلاثيات الذهبية، الفضية، الخشبية... لحمايته، تخطّي الأزمات، والوصول لحلولِ وسطٍ مقبولة من الجميع، ومن هذا المبدأ يطرح الوزير السابق فادي عبود ثلاثية إنقاذية، لها أن تصل باقتصاد لبنان إلى برّ الأمان قبل الوصول لمراحل محظورة يصعب الرجوع منها، ولا تنفع من بعدها مراسم التباكي والسير بجنازة الوطن بعد التنكيل به وباقتصاده.

يشرح عبود في حديثٍ خاص لـ"ليبانون ديبايت" قوام هذه الخطة الإنقاذية، والتي تعتمد على بنودٍ ثلاثة، أولها خلق ما يسمى بالمجلس الأعلى للتنافسية، الذي تعتمده دول العالم اليوم، وتقع على عاتقه مسؤولية تسهيل الإجراءات بما يسهّل العجلة الاقتصادية والتجارية في لبنان، إذ أنه في وضعنا الحالي وعلى سبيل المثال لا الحصر "تفريغ حمولة شاحنة واحدة على مرفأ بيروت يحتاج إلى عشرات الإمضاءات، ويكون قرار هذا المجلس فوق كل وزير ومجلس الوزراء مجتمعاً، يخلّص لبنان من الإجراءات العفنة التي تتماهى ومصالح واضعيها الشخصية، وله حق التدخل بالاجراءات المعتمدة للمعاملات حتى مع القطاع الخاص، كما يقوم بتنظيم الفواتير وتسهيلها، ويعتمد على موظفين كفوئين وقاضي متنور من خارج مجموعة المستفيدين من تعقيد الاجراءات لأنه سينجم عنه سلسة مراسيم وقوانين في هذا الإطار.

أما البند الثاني في الخطة الانقاذية فيكون عبر تفعيل وتعديل قانون الحق في الوصول إلى المعلومات الذي صدر مؤخراً، وهو القانون الذي تتمنع المؤسسات العامة والوزارات عن تطبيقه، علماً أن في هذا القانون ثغرات عديدة يجب تعديلها عبر اقتراح قانون معجّل مكرر، أهمها إعفاء الفواتير التي لا تتجاوز الـ 5 ملايين ليرة من النشر، ما يفتح نوافذ عديدة للفساد وإن كان بفواتير مصغرة، وللمواطن حق كامل بالإطلاع على المعلومات من أصغر إلى أكبر فاتورة. كما أن معاشات القطاع العام يجب نشرها، لما يلحق بها من لجان، مدارس، ومحروقات... فإما أن تكون الشفافية مطلقة، واما لا شفافية. ويلفت عبود إلى ضرورة وجود المعارضة والموالاة في الحكم، وتحديداً ما يسمى بوزراء الظل مثل باقي الدول، إذ يكون هناك رقيب على كل ورقة يوقّع عليها الوزير.

وفي البند الثالث والأخير يبرز ما يسميه عبود بحاكمية لمكافحة الفساد، "وليس وزير من دون صلاحيات ومن دون وزارة ولا موظفين"، وتكون حاكمية مستقلة لا تخضع لأي سلطة سياسية، يترأسها حاكم مستقل لديه ادعاء عام واجهزته الخاصة التي تمكنه من إصدار مذكرات توقيف بحق أي شخص مهما علا شأنه، وتكون صلاحياته مطلقة لمكافحة الفساد والمفسدين.

إذاً، بنودٌ ثلاثة ليست تعجيزية، وليست مستوحاة من كتاب المدينة الفاضلة، بل سهلة التطبيق ولا تحتاج لأكثر من قرار لخلق نظام اقتصادي فعّال يشبه تاريخ لبنان لا حاضره المتعثّر.