خرجت إحدى النساء من المحلّ المجاور تصرخ: «في شاحنة فلتانة، زيحوا من الطريق، اركضوا، اركضوا»، فهرعنا لنختبئ، وما هي إلا ثوانٍ حتى رأينا الشاحنة في عقر محلّنا، والمياه تطوف في كلّ الأرجاء، لم نستوعب لأوّل وهلة ما إذا كان المبنى بدأ بالسقوط، إذ انّ كلّ ما كنّا نراه كان غباراً وحجارة في كلّ مكان.
 

يجلس كلّ من شادي وجهاد، صاحبا المحلّين المجاورين اللذين اجتاحتهما الشاحنة الأسبوع الماضي في المنصورية، أمام ما تبقّى من محليهما ويرويان لـ«الجمهورية»: «الله نجّانا، فلولا المرأة التي خرجت من المحلّ المجاور لعدم وجود «صرافة 50 ألف ليرة» لتصرخ وتنبّهنا، لكنّا اليوم في خبر كان»، يقولها الرجلان مبتسمين، فهما عايشا الحرب و«تَمْسَحْنَا» حسب تعبيرهما.


ويقول شادي: «المشكلة في لبنان، فضلاً عن الفساد المتفشّي في كلّ القطاعات، هو عدم تطبيق القوانين، فأنا، علماً أنني أقود سيارات منذ 20 عاماً، رسبت في فحص القيادة في دبي لأنهم في تلك الدولة يتشددون في تطبيق القوانين خصوصاً إذا كان تجاهلها يشكل خطراً على الناس، أما هنا فبـ200$ يستحصل الشخص على رخصة قيادة وهو في منزله»، مضيفاً: «يسترخص بعض أصحاب الشاحنات ويوظفون سائقين غير متمكنين لأنهم أرخص أجرة».


يوضح شادي أنّه كان قد افتتح محله قبل 4 أيام من حصول الحادث، «وما لحقت اتهنّى فيه، بس الحمدلله هيدا كلّو بيتعوّض، منيح اللي طلعت بالمحل وما ضلّ الكميون مكفّى نزول، كان صار مجزرة».

إهمال؟

هناك معايير دولية للشاحنات التي تستخدم الطرق الرئيسة من حيث التصميم وأنظمة السلامة، من أهمّها نظام الفرامل ونظام التعليق ونظام التوجيه والتصميم الخارجي للشاحنة، فضلاً عن السرعة والحمولة المسموحة وساعات العمل داخل المدن، لكنّ الإهمال في هذا السياق يقع من جهة على أصحاب الشاحنات وسائقيها، ومن جهة أخرى على الجهات الرقابية التي لها سلطة في ضبط السير مثل المرور وأمن الطرق والفحص الدوري.


وفي هذا السياق، فإنّ غالبية الشاحنات التي تستخدم في لبنان هي من الطراز القديم وقد يزيد عمرها عن الـ30 فضلاً عن أسلوب قيادتها الرديء لأبعد الحدود

«الحقّ على مين؟»

«المسؤولية تقع على أصحاب الشاحنات، وعلى الحمولة الزائدة قبل كلّ شيء» يقولها نقيب أصحاب الشاحنات شفيق القسيس لـ«الجمهورية»، مضيفاً: «هناك إجراءات عدّة بإمكان الدولة تطبيقها سواء أكان في تنفيذ قانون السير الجديد أم من خلال موافقتها على المشروع الذي تقدّمنا به بالتعاون مع الـ«يازا» لإعطائنا صلاحية إنشاء مدرسة لتدريب سائقي الشاحنات وتجديد الوعي لديهم حول قوانين السير الجديدة، وضرورة القيادة بضمير، على أن يتمّ حجز رخصة قيادة كلّ من لا يحمل بطاقة هذه المدرسة، وأنا أنادي بهذه الخطوة في كلّ مناسبة».


ويوضّح القسيس أنّ «بعض الحوادث تكون قضاء وقدراً، وهنا أتحدّث عن الأعطال التي تصيب الشاحنات الخاضعة أساساً للصيانة، لكن في حال الحمولة الزائدة أو السرعة فهنا المسؤولية تقع على سائق الشاحنة، وهو ما نهدف الى محاربته في المدرسة التي نسعى الى إنشائها»، موضحاً أنّه «لا يمكن التلاعب بنتائج الصيانة التي تُجرى للشاحنات، وحتى أنّ أصحابها لا يتهرّبون منها لأنّ المسؤولية الكبيرة تقع عليهم في حال حصول أيّ حادث».


من جهته، يوضح أحد أصحاب «الكاراجات» المتخصصة بصيانة الشاحنات لـ»الجمهورية» انّ الأسباب المؤدّية لحوادث الشاحنات هي:

• عدم رقابة السلطات المختصة على كلّ مقاسات الشاحنات.

• الحمولة الزائدة.

• تغيير مكون الشاحنات (السماح بتجديد الميكانيك و«الكابين» والمحرّك وأدوات الميكانيك) من دون الأخذ بالاعتبار إمكانية المطابقة مع «الشيسي» والمكابح.

• المعاينة الميكانيكية: عدم الدقة في الوزن إذ لا يمكن تقديركمية الحمولة.

• عدم وجود موازين (ميزان) في كل المناطق من قبل السلطات المختصة لرقابة كمية الحمولة المسموح بها.

• عدم الرقابة خلال التسجيل، وجهة استعمال الشاحنات (مياه، مواد بناء، سيارات سياحية، مواد غذائية من قمح وخضار)، بحيث تنقل الشاحنة نفسها القمح والمواد الغذائية كما تنقل مواد بناء ترابة، رمل، بحص، حديد وما شابه.

• تخطي السرعة المسموح بها.

• عدم الرقابة على السائقين ورخص السوق المسموح بها.

باتت الشاحنات كابوساً يسعى كلّ من في الطريق الى الهرب منه، فعدد لا يستهان به من سائقيها يقودونها بسرعة خيالية ويتخطون السيارات فاتحين خطاً ثانياً غير آبهين بالحمولة التي تزيد من سرعتهم، ولا من المكابح التي تصبح حامية مع كثرة استعمالها ولا تعود نافعة. كلّ ما يمكن قوله إن حادثتي بشامون والمنصورية دقتا ناقوس الخطر، علهما توقظان الدولة من نومها السريري لتؤمن للمواطنين أبسط شروط السلامة.