جعجع سيكون أمام تحدّي الاعتراض على الرجلين معاً وتأييد مرشح ثالث
 

«ديوك الموارنة» يستعدون. وفي غبار الأزمات، أعلن الرئيس ميشال عون بنفسه أنّ معركة خلافته فُتِحت باكراً. فهل ينجح في حجز مكانه للوزير جبران باسيل ويكون ذلك بمثابة «تمديد معنوي» للعهد؟ أم آن الأوان للدور الموعود به النائب السابق سليمان فرنجية؟ وماذا سيفعل الدكتور سمير جعجع؟
في العام 2016، تفهّم جعجع أن يسحب الرئيس سعد الحريري تأييده له كمرشح لرئاسة الجمهورية. وأبسط المبررات هو الآتي: إذا كان الحريري سيعود إلى السراي، أي أن رئاسة الحكومة ستكون من حصة 14 آذار، فليس منطقياً أن يطلب هذا الفريق رئاسة الجمهورية أيضاً.


إقتنع جعجع آنذاك بأنّ هذه العقبة «العلنية» هي الأبرز أمامه. ولكن، كان هناك كلام في الكواليس- وما زال- مفاده أن غالبية القوى الأساسية، السنّية والشيعية والدرزية إضافة إلى المسيحية، لا تريد جعجع في موقع الرئاسة، بسبب الحساسيات القديمة من «القوات اللبنانية».


وفي ذاكرة كل من قادة هذه القوى «ثأر» أو»مأخذ» على «القوات» يعود إلى زمن الحرب. وهناك انطباع لدى بعض الأوساط المسيحية بأنّ وصول «مسيحي قوي» إلى الرئاسة لم يعد أمراً «مُستحبّاً» بعد الطائف.


وحتى العماد ميشال عون لم يكن هو المفضّل في موقع الرئاسة، حتى لدى حلفائه. ولهذا السبب، طال انتظار وصوله إلى هذا الموقع. لكن عون فرض حضوره فرضاً على الحلفاء والخصوم بحكم موقعه المسيحي الوازن.


وتستطيع القوى الأخرى أن «تتحمّل» عون في موقع الرئاسة، ولو على مضض، لأنه لم يكن مقاتلاً «ميليشيوياً» في المنطقة المسيحية، ولأنه خاض حرباً ضد «القوات». لكن هذه القوى جميعاً لا تتقبّل جعجع، قائد «القوات اللبنانية»، مع أن القوى الأخرى بمعظمها ميليشيوية الطابع ولا يحق لها المزايدة أو «التحسّس» على «القوات».


إذاً، في هذا المناخ، تَفهَّم جعجع مبررات أن يسحب الحريري تأييده لترشيحه في العام 2016. لكنه صُدِم بتأييد الحريري لفرنجية. وقد شرح الحريري لجعجع آنذاك أن فرنجية هو الأفضل بين موارنة 8 آذار، وإلا فالبديل هو عون.


وفي تقدير الحريري، آنذاك، أنّ المأخذ الوحيد على فرنجية، وهو قربه من الرئيس بشّار الأسد، سيكون أمراً محلولاً لأن التسوية الآتية في سوريا- كما رآها الحريري وبعض القوى العربية آنذاك- ستؤدي إلى تبديل الأسد، فيتحرّر فرنجية من البُعد السوري ويمارس الحكم بـ«قوته اللبنانية» فقط، وهي ليست قوة طاغية.


خاف جعجع من هذه المغامرة. فليس مضموناً أن الأسد سيتغيّر، وليس مضموناً ألا يتحكّم بعهد فرنجية منطق الانتقامات. وقيل لجعجع آنذاك: «على العكس، قد تكون أنت الرجل المدلّل في عهد فرنجية. فهذا العهد يحتاج إلى تغطية مسيحية. والتغطية لن يوفرها عون له، بل سيشنّ عليه حرباً شعواء بسبب «سلب» موقع الرئاسة من أمامه. ولذلك، سيحتاج إلى جعجع والكتائب وسواهما للتغطية».


لكن جعجع كان يعتقد أن هذه المغامرة ليست محسوبة النتائج. وفي أفضل الأحوال، هناك هوّة واسعة في الخيارات السياسية الكبرى بينه وبين فرنجية يصعب ردمها.


إختار جعجع عون بدلاً من فرنجية. ورأى أن التفاهم مع عون يبقى أضمن وأثمانه أدنى وفي المدى البعيد سيعود عليه بالفائدة، سواء في السلطة أو على المستوى الشعبي، وفكّر في ثنائية مسيحية كاسحة تشبه الثنائية الشيعية.


فكرة جعجع هي أنه سيكون الأقوى بعد عون، وأن تحالفه مع «التيار» سيمنح «القوات» وزناً موازياً داخل السلطة التنفيذية والمجلس النيابي وفي البيئة الشعبية المسيحية، كما سيجعلها أكثر قبولاً في البيئة الشيعية، وبيئة «حزب الله» خصوصاً. وتالياً سيكون جعجع الأوفر حظاً لبلوغ موقع الرئاسة خلفاً لعون.


ولكن، للدقّة، لم يكن عون يحتاج إلى دعم «القوات» من أجل بلوغ الرئاسة. فهو فرض نفسه على الحريري والآخرين لأنّ «حزب الله» لم يكن يرغب في «إغضابه» وخسارته كحليف مسيحي. وإنما احتاج عون إلى دعم جعجع لاستكمال تغطية مسيحية أوسع.


فـ«حزب الله» هو الذي أعطى الإشارة بوصول عون إلى بعبدا، وأبلغ فرنجية أنّ أمامه الكثير من الفرص في المستقبل. وقد تفهّم فرنجية حيثيات موقف «الحزب» جيداً.


اليوم، على نار الأزمة الحكومية، بعد نار الانتخابات النيابية، تتجدّد المعركة بين الموارنة الثلاثة: عون (عبر باسيل) وجعجع وفرنجية. فكل منهم يستخدم الأوراق التي توفر له الظروف ليكون الأقوى.


في الانتخابات النيابية، استطاع جعجع أن يتقدّم على رغم الحصار المضروب عليه. لكن «التيار» في المقابل لم يتراجع بالأرقام. وحافظ فرنجية على حجمه. وفي الحكومة العتيدة، يريد جعجع أن يستثمر الأرباح النيابية، فيما يعمل باسيل لتكون الغلبة لـ«التيار» داخل الحكومة، ما يعطّل مفاعيل «انتصار القوات» نيابياً. والمعركة على أشدّها.


الرئيس عون قال إنّ معركة الرئاسة فُتِحت باكراً لأنّ باسيل «في رأس السباق». ويبدو أنّ السنوات المتبقية من العهد ستسودها روح الصراع بين الموارنة الثلاثة على الرئاسة، وسيخوض عون خلالها أشرس المعارك لإبقاء باسيل «في الرأس»، مهما كلّف ذلك من أثمان. فوصول باسيل يعني استمرار عهد عون.


سيستخدم عون لوصول باسيل الاستراتيجية إيّاها التي استخدمها لوصوله في 2016، ونواتها حيازة دعم «حزب الله» الذي عليه مجدداً أن يختار: باسيل أو فرنجية؟ ولذلك، يمارس باسيل أقصى الضغوط ويُظهِّر أعلى درجات التحالف الاستراتيجي مع «الحزب». وأما فرنجية فلا يجد نفسه محتاجاً إلى تقديم الإثباتات.


يدرك جعجع أنّ المعادلة السياسية القائمة لا يمكن أن تسمح له ببلوغ الرئاسة، وأنّ الاحتمال الوحيد الذي يمكن أن يوفّر ظروفاً واقعية لتحقيق هذا الهدف هو انقلاب المعادلات جذرياً على المستوى الإقليمي والداخل اللبناني. وهذا الاحتمال يبدو ضعيفاً جداً.


ولذلك، من المنطقي التفكير بأنّ المعركة الآتية ستكون محصورة بباسيل وفرنجية أساساً، والخيار الأرجح هو ذاك الذي يدعمه «حزب الله». وهذا يعني استعادة المعادلة الرئاسية التي قامت في 2016.


وواقعياً، يصبح جعجع أمام خيارين: إمّا تكرار التحالف مع عون (باسيل)، وإمّا الذهاب إلى المغامرة الأخرى، التي تجنّبها في 2016، أي دعم فرنجية. وحتى اليوم، لا شيء مضموناً، لا هنا ولا هناك.


يعتقد قريبون من جعجع أنّ التحالف مع «التيار» يبقى أفضل، على مساوئه ومرارة تجربته.


لكنّ آخرين يقولون: باسيل لا يملك رصيد عون ووزنه المعنوي، ولذلك، التعاطي معه في العهد المقبل سيكون أصعب من التعاطي مع عون، بل أصعب من التعاطي مع فرنجية! وهكذا، سيكون جعجع أمام الاختيار الصعب جداً بين باسيل وفرنجية…


وإلّا، فإنّ جعجع سيكون أمام تحدّي الاعتراض على الرجلين معاً وتأييد مرشح ثالث. ومشكلة هذا المرشح أنه سيكون من خارج دائرة الأقطاب الموارنة الأكثر تمثيلاً. وهذا يعني أن يعود جعجع إلى الوراء، أي إلى تسمية الرؤساء من فئةٍ أقل تمثيلاً للمسيحيين. وهذا أمر لا يحبّذه أحد من قادة المسيحيين.


البعض يقول: الآن، يجري صنع الرئيس المقبل، على نار الأزمة. ولكن آخرين مقتنعون بأنّ هناك مُتّسعاً من الوقت لتظهير الصورة. والأهم أي رئيس سيكون، لأيّ جمهورية ستبقى؟