شكلت الانهيارات النقدية في تركيا وإيران بيئة صالحة للتهويل على الليرة اللبنانية
 

فقدت الليرة التركية أكثر من 40 في المئة من قيمتها مقابل الدولار هذا العام، وفقد التومان الإيراني 30 في المئة من قيمته خلال 6 أشهر، وشكلت هذه الانهيارات النقدية في كل من تركيا وإيران بيئة صالحة لنشر الإشاعات وتبني المعلومات المغلوطة للتهويل على الليرة اللبنانية.

لبنان الذي مرّ بأبشع الأحداث الأمنية والخضات السياسية منذ الـ 2005 حتى اليوم، ويعاني من شلل اقتصادي تمددّ لمفاصل القطاعات كافة، لا زال يحافظ على ليرته منذ التسعينات. ليس لأن عنايةً إلهية جعلت العملة الوطنية بمنأى عن كل ما حصل ويحصل، وقد يحصل في المدى المنظور، وليس لأن قوى دولية تمنع انهيار الليرة اللبنانية، بل لأن سياسةً نقدية تجعل من هذا البلد، الضعيف سياسياً واقتصادياً، بلداً يتفوق نقدياً على تركيا وإيران، وكل دول الإقليم، لا بل يضاهي الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.

يؤكد وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال رائد خوري لـ"ليبانون ديبايت" أن لبنان يختلف عن هذه الدول بنظامه المالي المعتمد، وهو تثبيت الليرة، "فلدينا احتياط كبير من العملات الأجنبية تشكل ما قارب 80 في المئة من مجموع العملة الوطنية الموجودة في السوق، ولدى المصرف المركزي قدرة كبيرة جدا للتدخل على الحفاظ على العملة الوطنية".

ويجزم خوري بأن لا خطر على الليرة طالما أن هذه السياسة موجودة والقدرة على تنفيذها من العملة الصعبة موجودة، لكن على المدى الطويل لا بد من إجراءات حكومية للنهوض باقتصاد لبنان وتصحيح مساره واعتماد خارطة طريق واضحة بتكافل القوى السياسية والوزارات المعنية ، "وهنا لا بد من تبني الحكومة المقبلة للخطة الاقتصادية التي وضعتها وزارة الاقتصاد، واستمر العمل عليها 6 اشهر وهي تتكامل مع مؤتمر سيدر، كما أن الأخير يتكامل معها، إذ لا خطة اقتصادية في لبنان تاريخياً، حيث الاقتصاد متروك لقدره".

وللتعرف أكثر على هذه السياسة النقدية، والوقوف على تفاصيلها، ومعرفة أبطالها، كان لـ"ليبانون ديبايت" حديث مع الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة، الذي يعزو ما ينعم به لبنان من استقرار نقدي للسياسة النقدية التي اعتمدها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة منذ أن تسلمه منصبه من 25 سنة، إذ عزل تأثير الاقتصاد السيئ وتأثير المالية العامة عن الليرة.

فأتى الرئيس الشهيد رفيق الحريري في آب الـ 1993 بسلامة من مصرف "ماري لانش" العالمي إلى مصرف لبنان، بعد أن فقدت الليرة قيمتها بأرقام خيالية، خلال الحرب وبعدها، ووصلت قيمة الدولار الواحد في أوائل التسعينات لتساوي 3 آلاف ليرة لبنانية.

وبدأ سلامة مستفيداً من الخبرة اللازمة التي اكتسبها من مكان عمله السابق في أحد أهم المصارف العالمية، وثقة الأسواق العالمية به، باعتماد سياسة نقدية قوامها تثبيت الليرة، وبدأ العمل على استقطاب العملات الأجنبية، ومراكمة الاحتياط، الذي تراكم من 300 مليون دولار في آخر التسعينات ليصل اليوم إلى 45 مليار دولار، كما ولجأ لهندسات مالية لجذب الدولارات. 

وبعد تثبيت الليرة واستقطاب الدولارات مستفيدا من عامل ثقة الأسواق به وبالمصرف المركزي، عمل سلامة على قوانين تحمي الليرة، وتمنع المضاربة الداخلية والخارجية. وعمل على تنظيم القطاع المصرفي الذي كان مشرذم ومجرثم في التسعيناتز وشمل هذا التنظيم المحافظة بالدرجة الأولى على أموال المودعين من خلال فرضه الكثير من القيود على المصارف وطريقة تعاملها مع الودائع ومنع التلاعب بها، وذلك عبر مئات التعاميم، وإلزامهم بتطبيق القوانين العالمية بما فيها قانون العقوبات على حزب الله، ما جعل لبنان من أهم المراكز المالية العالمية، وجعل من مصارفه بين المصارف الألف الأولى في العالم، علماً أن المقاصّة غير موجودة خارج الولايات المتحدة الأميركية إلا في لبنان، إذ أن لبنان من الدول النادرة في العالم التي يوجد فيها مقاصة لعملة غير عملته وتحديداً بالدولار الأميركي لجانب المقاصة بالليرة اللبنانية.

يضاف إلى احتياطي العملات الأجنبية (45 مليار دولار)، الأصول المقومة بالدولار الأميركي (12 مليار دولار) وهي أصول تمتلكها مصارف لبنانية في المصارف الأجنبية ويمكن لسلامة استدعاءها وقت الحاجة، واحتياطي الذهب (12 مليار دولار) والذي للرئيس السابق الياس سركيس الفضل فيه. 

ما يعني أن الليرة اللبنانية تستند إلى 69 مليار دولار أميركي، ما يمثل 138 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة غير الموجودة في أميركا نفسها. ما يعني أن الليرة في أمان ولا يمكن أن تهزها كل الخضات الأمنية والسياسية، ولكن إلى متى؟

كل ما سبق ذكره يقول أن استقرار الليرة مرتبط بشخص سلامة وسياسته النقدية المتبعة، فماذا لو غادر هذا المنقِذ مصرف لبنان؟ يقول عجاقة "مما لا شك فيه أن شخص سلامة وثقة الأسواق العالمية به لعبت دوراً كبيراً بالحفاظ على الليرة، ولذلك لأجل الحفاظ على نظامنا النقدي لا بدّ من إراحة الاقتصاد، والمالية العامة، كمفتاح أساسي للحفاظ على كل ما تم إنجازه في القطاع المصرفي طوال السنوات الماضية، وبالتالي الحفاظ على الليرة".
نهلا ناصر الدين |