لم يثبت، رغم حجم المعلومات المتوفّرة، أنّ ما يعيق تشكيل الحكومة عقبات داخلية أم خارجية، الى أن جزم دبلوماسيّ عربيّ بنظرية تبادل المصالح والخدمات بين بعض القوى الخارجية والداخلية. وانتهى الى اقتراح أن تبدأ عملية التشكيل بـ «المقلوب» بالتفاهم على عناوين البيان الوزاري أوّلاً، فهل هذا ممكن؟
 

ليس من السهل الجزم بأنّ ما حال دون تشكيل الحكومة منذ تكليف الرئيس سعد الحريري هذه المهمة في 24 أيار الماضي يكمن في الداخل اللبناني أم الخارج. فالمراحل التي قطعتها الصيَغ المتبادلة قدّمت أسباباً داخلية في المرحلة الأولى للعرقلة. ولكن، مع التطورات بدأ الحديث عن الإيحاءات الخارجية التي اعاقت هذه الصيغة أو تلك على خلفية التطورات الإقليمية والدولية.


ومن دون الدخول في الكثير من التفاصيل التي رافقت مفاوضات التشكيل، ثمّة مَن يعتقد بأنه وللمرة الأولى كان يمكن تشكيل الحكومة في الايام الأولى للتكليف. فالنتائج التي آلت اليها الانتخابات النيابية والمعادلات التي لم تتغيّر على مستوى الكتل النيابية وأحجامها بشكل دراماتيكي كان يمكن تسخيرُها - لو صفت النوايا - للتوافق على صيغةٍ ما لتوزيع الحقائب والحصص تشبه الى حدّ بعيد التركيبة التي كرّستها حكومة «استعادة الثقة» على أساس أنّ الإنجازات التي تحققت على مستوى الإدارة والمؤسسات وقانون الإنتخابات شكّلت ضمانةً للمعادلة التي كانت قائمة دون أن تنتج رابحاً وخاسراً ولم تغير في موازين القوى.


ولكن، ورغم التفاهم على هذه المعادلة البسيطة، بدأت تتدحرج السيناريوهات، سيناريو تلو الآخر نتيجة إعادة النظر بالتفاهمات التي أنهت الشغور الرئاسي وأوصلت العماد عون الى رئاسة الجمهورية والرئيس الحريري الى السراي وهو امر عُدَّ تلاعباً بأبسط قواعد التفاهمات التي تمّ تغليفُها بشعارات براقة مزيّفة فعبرت بعض المطبات الصغيرة الى أن بلغت الإستحقاق الكبير فكان سقوطها مدوياً.


وعلى هذه الأسس تفاهم الدبلوماسي العربي ومحدّثوه من الناشطين على أن ليس هناك أيُّ تفاهم بُني على قواعد صلبة سوى «تفاهم مار مخايل» بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» على المستوى الوطني، وذلك الذي بني بين «أمل» و«حزب الله» على المستوى الطائفي. وما عداهما كان مجرد «تفاهم اللحظة» لعبور مرحلة معيّنة دون إغفال ايّ طرف النّية بالانقلاب في ايّ لحظة يمكن أن تنكشّف فيها الكمائن المتبادَلة.


وتوقف الدبلوماسي عند الأسباب التي دفعت بمعظم الأطراف المتصارِعة الى التمسّك بالسقوف العالية متسائلاً عن الأسباب التي تحميها. فمعظمهم لا يعترف بأنه يلعب على حدّ السكين، ولا يقرّ بأنّ البلد على قاب قوسين أو أدنى من سلسلة أزمات إقتصادية واجتماعية لا يمكن أن تواجهها حكومة تصريف الأعمال في ظلّ الشلل الذي اصاب عملية التشكيل وتمادي البعض باستغلال اللحظات الأخيرة لمزيد من الإمعان في استغلال المؤسسات لمآرب شخصية ومناطقية ليست خافية على أحد.


وعليه، اتّفق الجميع على أن لا إمكانيّة لأحد أن يتراجع عن مطالبه في ظلّ غياب الوسيط القادر على توفير المخارج الممكنة. علماً أنّ لكل منهم من الأسباب الموجبة ما يكفي للمضي بموقفه المتصلب الى النهايات المجهولة. وهو ما أدّى الى الربط بين هذا الواقع ونتائج المتغيّرات التي طرأت على المستوى الدولي جراء العقوبات الأميركية على طهران وما آلت اليه الأزمة السورية والتجاذبات على خط الرياض - طهران نتيجة تطوّرات الأزمة اليمنية فاختلط حابل العقبات الداخلية بنابل الخارجية.


وأمام كمّ المعلومات المتوافرة عن نتائج الزيارات الى كل من باريس والرياض وطهران ودمشق تشابكت الروايات وتعقدت الأمور. فكان الجمودُ القاتل على مسار التشكيل أحدَ ابرز وجوه الأزمة المستعصية. فلا رئيس الجمهورية مستعدٌ للتراجع عن المبادئ التي رسمها قبل أن يوقع مرسوم التشكيل، ولا الرئيس المكلف مستعدّ لتقديم صيغة حكومية جديدة، ولم يظهر أنّ رئيس مجلس النواب يمكنه أن يلعب دور الوسيط في ما تفرّغ الباقون للحديث عن المزيد من الشروط التعجيزية وتبادل الاتّهامات ونبش الماضي. فخرجت السيناريوهات التي تتحدث عن شروط الخارج الى السطح من جديد. ففي ظلّ العجز الداخلي عن اجتراح المخارج تتّجه الأنظار الى الخارج الذي اعتاد المساهمة في توفيرها.


وأمام هذه القراءة المعقّدة للأمور والتي زاد منها الحديث عن فتح استحقاق الإنتخابات الرئاسية المبكر، سأل الدبلوماسي:

- ما الذي يمنع التفاهم على بعضٍ من عناوين مرحلة ما بعد التشكيل، بدءاً بمضمون البيان الوزاري وكيفية تعاطي لبنان مع تردّدات الأزمات السورية والإقليمية والدولية؟

- هل يعتقد أحد مهما عظمت قوته أنّ بقدرته قيادة البلاد الى أحد الخيارين المتصارعين في المنطقة؟

- هل يتحمّل لبنان وجود رابح وخاسر وموالاة ومعارضة بالمعنى الحقيقي للكلمة؟

- هل مقبول أن يفتح أحدٌ الجدل من اليوم حول الإستحقاق الرئاسي بما فيه من مسٍّ بـ «العزّة الإلهية» والحديث عن اعمار المسؤولين في مثل الظروف التي تعيشها البلاد؟

ولم يشأ الدبلوماسي طرحَ المزيد من الأسئلة بعدما بلغ الحديث بعض ما لا يُنشر، وانتقل البحث الى مقاربة الأجوبة الممكنة على الأسئلة المطروحة الى أن عاد الحديث الى الصفر. وهو ما يُنبئ بأنّ على اللبنانيين انتظار القدر، مع الخوف من حدث أمني أو كارثة اقتصادية تدفع الجميع الى النزول من حيث ارتفعوا فتتحوّل التنازلات المطلوبة من الجميع الى إنجاز تاريخي تولد الحكومة العتيدة من رحمه.