اليسا كذّابة... كيف تريدنا أن نصدّقَ أنها كانت مصابةً بالسرطان وشُفِيَت، وهي لم تنشر أيَّ صورة لها من سرير المستشفى خلال فترة المرض والعلاج؟ لماذا لم تجلس اليسا على أبواب السوشل ميديا تستعطي من الناس دمعةً أو شمعةً أو دعاءً أو صلاة؟ لماذا لم تجيّش صفحاتِها وملايين المتابعين في لحظة ضعفها ليدقّوا بابَ الله من أجل تخفيف الألم وإطالة المشوار؟
 

 

اليسا صادقة... أضاعت حياتها الشخصية في الفنّ، وكلّما جاءت تبحث عن تفصيلٍ أو ذكرى أو إحساس تجده معنا في أغنية أو فيديوكليب، وحتى مرضها عاملته كعلاقةِ حبٍّ عابرة أو خيانةِ صديقٍ موجِعة، خمّرته وصبّته في شاشات المشاهدين الذين شربوا فيها كأس الانتصار على الألم الغدّار دون أن تدعوهم لتذوُّق كأس المرض...


هل هناك سرطان في الدنيا كان يتخايل أن يصبح أغنيةً وفيديوكليب؟ هل هناك سرطان كان يتخايل أن يصبحَ خبثُه طاقة حبّ ومصدرَ إلهام لعملٍ فنّي جديد؟ هل هناك سرطان يمتهن إدخالَ الناس إلى أروقة المستشفيات كان يتوقّع أن يصبح سببَ أخذ المشاهدين إلى كوريدورات الإبداع في أغنية وفيديوكليب «إلى كل اللي بيحبوني»؟ أضعفت إليسا السرطان وتغلّبت عليه ومسحت الأرض به أمام ملايين المشاهدين، الذين تذوّقوا في بضع دقائق طعمَ التغلّب على المرض.


اليسا انتصرت على سرطان الثدي، لكن في فيديوكليبها الجديد علّمتنا الشفاءَ من سرطاناتٍ كثيرة تصيب أخلاقنا وعقولنا، سرطانات تمنعنا من التواصل بمحبّة، وسرطانات جعلتنا نتسرّع في أحكامنا المسبقة وانتقادنا للمشاهير وتفاصيل حياتهم، التي يمكن أن تكون في كثيرٍ من الأحيان فرحاً تحت الأضواء وألماً في الكواليس.


ظنّ كثيرون أنّ الهدف من الفيديوكليب هو التوعية من سرطان الثدي والدعوة إلى الكشف المبكر عنه، لكن هذا ليس سوى تفصيل صغير في عمل المخرِجة أنجي جمّال التي سمعت ألمَ اليسا وفهمت هاجسها ورأت قصّتها فرسمتها بالكاميرا على الشاشة وذكّرتنا بكادراتها المتدرّجة من الحزن الغامق إلى الفرح المشرق أن نكشف باكراً عن أصدقائنا وأحبابنا ونعرف قيمتهم في حياتنا، أن نكشفَ باكراً على أحلامنا في الحياة حتى نواجه آلامَ اليقظة بشجاعة.

 

انتقلت عدسةُ جمّال من أروقة المستشفى الظالمة إلى دموع المنزل الصامتة ووصلت حتى أضواء المسرح الساطعة، ورافقت اليسا بين مختلف حالاتها النفسية، وكانت تقول بصمت في كل لقطة: ما قيمةُ الثروات والمسارح والشهرة والأضواء أمام لحظة ألم ومرض... فتصمت أمام نظرة خوف لتكمل وتقول إنّ الثروة الحقيقية في الحياة هم الأصدقاء والأحبّة.

 

ومن دير الأحمر عام 1985 من أحضان الأب الحنون، إلى حضن الأصدقاء عام 2018 جان نخول وأمين أبي ياغي وطوني سمعان وبسام فتوح وغيرهم، وجّهت الكاميرات ألف تحيّة شكر إلى حبّهم واهتمامهم، فكانوا هم أبطال الفيديوكليب مثلما هم أبطال حياتها.


وأمّا نحن، نحن الذين لسنا أصدقاءَها، نحن الذين ما زلنا نقول عن السرطان «هيداك المرض»، ونتستّر على المصاب به ونبكي عليه في وحدتنا وبعيداً من أعين الناس، نحن تحوّلنا مع فيديوكليب «الى كل اللي بيحبوني» إلى عائلة اليسا، إلى أخواتها وأشقائها وأهلها وأقاربها، دخلنا إلى خصوصية مرضها وحياتها وألمها، بكينا معها وفرحنا وانتصرنا، وتعلّمنا أنّ حتى أولئك المشاهير يمرضون ويضعفون ويتألّمون ويحاربون، تعلّمنا أننا جميعاً نجلس في كواليس الحياة عندما يصعد المرض إلى المسرح.


وكم نتذكّر في هذه اللحظة «المشاهير» الذين تاجروا بمرضٍ وهميّ من أجل الشهرة، وكم باعوا آلامهم من أجل استعطاف الناس وتكديس حفنة من المعجبين، في حين أنّ اليسا خاضت معركتها وانتصرت ولم تشاركنا سوى الفرحة منها واحتفظت بالألم لنفسها وحدها، فقدّمت «من هيداك الفن» الذي لا يجرؤ عليه أكبر الفنانين، وفضحت كم الجمهور العربي متعطّشٌ إلى الصدق في أعمال الفنانين، وكم هؤلاء بحاجة إلى بعض من الشجاعة في اختيار مواضيعهم والوعي في تنفيذ أعمالهم...


كثرٌ يحوّلون الفنّ إلى سرطان وقلائل يحوّلون السرطان إلى إبداع.