علاقة إشكالية بينهما وحدود متداخلة
 

شكّل التاريخ بفواجعه ولحظات صعوده وانكساره مادة خصبه للأدب والشعر والفن، حتى أصبح الاثنان بمثابة فرعين في شجرة الحياة، لكن السؤال يظل قائماً: كيف يفسر التاريخ حاضرنا ويحدد هويتنا ومستقبلنا، وكيف يعمّق الأدب في إطار هذه العلاقة تجربتنا الإنسانية ويسمو بها نحو الأعمق والأجمل؟

«ثقافة» استطلعت آراء كتاب وشعراء ونقاد مصريين حول هذه العلاقة، وكيف رفدت تجاربهم الإبداعية، ورؤيتهم لواقعهم وللعالم.

- القاص سعيد الكفراوي: الأدب غير التاريخ

إن الأدب والتاريخ فرعان لشجرة واحدة، فالتاريخ يحاول عبر بحثه عن تسجيل حوادثه اعتماد الحقيقة أحياناً والوثيقة في أحيان أخرى، بينما الأدب يعتمد التخييل وإعادة إنتاج ما جرى، في محاولة دائمة لإثارة الدهشة والإجابة عن سؤال المصير، والسعي نحو المعرفة والتعبير عن القيم العليا، مثل: العدل والحرية والجمال، ومن ثم الألم الإنساني، وجروح الروح، وإدراكه معنى المجاز الذي يجابه أهوال الحياة والموت». يتابع الكفراوي: «حيث تزدحم صفحات التاريخ بصور ما جرى من حوادث الماضي، يتأمل الأدب وهو على قمة الوعي المستقبل ويتخيل حوادثه. وقد يكون التاريخ مادة لرواية ناجحة متخيلة مثلما في (اسم الوردة) للكاتب الإيطالي امبرتو إيكو، وفي بعض روايات أديب نوبل (نجيب محفوظ) مثل (أولاد حارتنا) و(كفاح طيبة» و(أمام العرش)».

يتمتع الروائي وكاتب القصص اللذان يستعينان بمادة تاريخية بالقدرة على استبعاد الواقعي والحوادث وتحويل تلك المادة إلى فن وإلى عمل من أعمال الخيال، لكن تبقى إشكالية الفصل بين الرواية والتاريخ، فرغم أن الأدب والتاريخ نوعان من أنواع القص، فإن كل منهما له تقاليده المستقلة تماماً، فالأدب يقوم على الانتخاب، وتجسيد المتخيل، وطرح السؤال، وهتك سر الأسطورة، ونحت أشخاص يأتون دائماً عبر الذاكرة وفق فضاء السرد الأدبي.

ربما اتفق التاريخ والأدب في اشتراكهما في الخطاب الثقافي والآيديولوجي، لكن يظل اختلافهما الأساسي في الشكل وطرق المعالجة والبناء والاستبصار، وفي النهاية يظل الأدب ينظر إلى التاريخ باعتباره مادة خاماً يمكن الاستفادة منها لتجسيد عمل أدبي متخيل، والدليل على ذلك تلك الروايات التي أبدعت وكان التاريخ مادتها.

التاريخي يخضع لاختبار الزمن وحضور الوثيقة، وصيرورة الحوادث، ويتغير بمجريات الأمور، بينما الأدب غير ذلك فحقيقته في جودة ما أبدعه وصدقه، في متخيله الدال على فطرة الكاتب التي من خلالها يمارس إبداعه عبر رؤية توازن بين الوجود والعدم والحقيقة والخيال، تلك الحقيقة التي نظر إليها يوماً فرناندو بيسوا، وقال عنها (ها أنا فريسة لقلق غامض فجأة، كف السكون عن التنفس، فجأة نهار لانهائي من فولاذ تشظى، ثمة ضوء بلا روح نفذ إلى الزوايا، وإلى الأرواح وصوت جبل قريب هو من الأعالي محزماً بصيحة حجاب الهاوية)... بالتأكيد الأدب غير التاريخ!».

- الروائية سهير المصادفة: التاريخ المسكوت عنه

هناك روايات تاريخية نجدها أقل أهمية وأقل جمالاً عن كتب التاريخ المتوافرة في المكتبات، هذه الروايات ارتضت لنفسها أن تتكئ على التاريخ اتكاءً كليّاً، ولأن التاريخ قد كُتب غالباً من وجهة نظرٍ رسمية، فإن الإبداع يكاد يضمحل تماماً من سطور الروايات المستقاة منه التي لا تكون في النهاية سوى صورة باهتة من كتبٍ رسخت في أذهان قرائها من شتَّى الأجيال؛ ولذا سرعان ما يرد هؤلاء القراء هذه الروايات إلى أصلها ويتعاملون معها على أنها لم تكن، تماماً كما نرد جملة موسيقية سمجة ومقلدة بركاكة إلى أصلها فلا نعاود الاستماع إلا إلى الأصل ونحذفها من حياتنا.

على الجانب الآخر، هناك روايات تاريخية آسرة، وهي تلك التي كُتبت بعد أن فهم كاتبها أنها عليها أن تكتب التاريخ المسكوت عنه في ثنايا التاريخ الرسمي، أي التاريخ الذي من المفترض أن يُكتب لو سُمح للشعوب بكتابته من وجهة نظرها هي لا من وجهة نظر كتبة الحكام. مشيرة إلى أن هذه الروايات لا تتكئ على التاريخ الرسمي، بل تخرج عليه وتحاكمه أحياناً وتتحاور معه تارة وتكذبه تارة أخرى، وتتناص معه في بعض مراحلها فتكون مثل سيمفونية رائعة تملأ أرجاء الماضي والحاضر والمستقبل، وعلى كل حالٍ الروايات التاريخية المهمة والرائعة قليلة في مكتبة العالم.

- الشاعر السيد جلال: كتابة التاريخ الحقيقي

للشعر دور بارز في العلاقة ما بين التاريخ والأدب، وذلك بما يمتلكه من أدوات لغوية ودلالات متعددة، وقدرة التسجيل، والتصوير، والاختزال، والتكثيف، إلا أن التسجيل مرتبط ارتباطاً وثيقاً بآيديولوجيات الشعراء ومرجعياتهم، وقناعاتهم بالأحداث، وثقافاتهم. إن كثيراً منهم مسكون بفكرة التعصب القبلي، ونرجسية الذات، فيسجلون لذواتهم ما ليس لهم، ويسلبون غيرهم ما هو لهم؛ ولأن الشعر أيضاً به آلية (الرمز- الشفرة)، التي قد تُستغلق على بعض المتلقين ولا يستطيعون فك طلاسمها، فيتم تأويلها بتأويلات قد تكون بعيدة عن الحدث نفسه وعن الشعر أيضاً، وقد يحملونها ما لا تحتمل من معانٍ.

هل يمكن أن يكون الشعر أداة لتاريخ موازٍ؟ إن ثمة صعوبات كثيرة ومعوّقات كثيرة بعضها يتم عمداً من قبل الأنظمة الحاكمة، وبعضها يعود للبيئات والعادات والتقاليد، وبعضها يرجع لتعدد المرجعيات والمعتقدات وإثارة التناحر فيما بينها لمن لهم المصلحة في ذلك سواء داخليا أو خارجيا، لذا فكتابة التاريخ الحقيقي للأمم التي لا يتمتع بحرية التعبير، وبشكل عام يشوبه عوار كبير، ولا يحظى بمصداقية حتى من عدد ليس بالقليل من أبنائه، ولا سيما المثقفين منهم ثقافة حقيقية، فكتابة التاريخ الحقيقي للشعوب في حاجة أساسية إلى المصداقية، والشفافية، والحيادية، ودقة التسجيل، والتخلي عن التعصب، والقبلية، وأمانة الطرح والنقل، واتساع الرؤية، والعمق، ووجود معايير متفق عليها لا تخضع للتلاعب، وألا تتدخل أصابع جهات خارجية في صياغته، وقبل كل هذا وجود حكماء يدركون أنهم بكلماتهم يكتبون تاريخهم لأبنائهم القادمين من رحم المستقبل، فلا شك أن الشعراء حين يكتبون قصائدهم تحركهم مشاعرهم وثقافاتهم ومرجعياتهم، وآلياتهم، وأدواتهم في هذا: الكلمة، والخيال، والصورة الشعرية، والتجربة، والإيمان بالموقف أو القضية، فماذا لو كان الشاعر ليس لديه هذه الأدوات، ولا يتمتع بهذه الصفات؟ فهل نعتبر ما يكتبه تأريخاً موازياً؟».

- المؤرخ عاصم الدسوقي: كتابة التاريخ تبدأ حين تنتهي السياسة

هناك أولاً فرق بين المؤرخ وبين الباحث في التاريخ؛ فالمؤرخ هو الذي يسجل الأحداث التي يعاصرها أولاً بأول، أو يوماً بيوم حسب رتم الأحداث دون إبداء رأي أو تحليل أو تفسير؛ لأنه لا يكتب بحثاً في التاريخ. وهذا النموذج متمثل في المؤرخين الأوائل وآخرهم مثلاً عبد الرحمن الجبرتي في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» الذي وقفت أحداثه عند عام 1822 قبيل وفاته في عام في عام 1824، أما الباحث في التاريخ فهو الذي يعتمد على ما تركه المؤرخ من أحداث، حيث يعمل على إعادة تركيب جزئيات الحدث لتفسير وقائعه والنتائج التي انتهى إليها. والباحث في التاريخ اصطلاحاً يعرف أن تحليل الحدث لا يتم إلا في ضوء توفر مصادره من حيث ما تركه «المؤرخ» وفي ضوء الأوراق الرسمية للدولة (الأرشيف)، وأما الذي يقوم بالكتابة عن حدث معاصر دون توفر الوثائق فإنه يغامر، بل ويتورط فيما لا يعرفه.

إن تقييم المراحل التاريخية يبدأ بعد أن تنتهي مرحلة حكم معينة وتأتي بعدها مرحلة أخرى، أي أن كتابة التاريخ تبدأ حين تنتهي السياسة، أي حين يغلق ملف مرحلة حكم وتبدأ مرحلة أخرى؛ حتى لا يقع باحث التاريخ تحت تأثير المناخ السياسي للمرحلة التي يعيشها. إن التاريخ علم، والعلم مستقل عن السياسة وعن الدين، أي لا يجب للباحث في التاريخ توظيف أحداثه لخدمة أوضاع واتجاهات سياسية أو دينية، والكاتب الذي يفعل ذلك يفقد علمية التاريخ وموضوعيه، بل يفقد أدبه مصداقيته.

والسير الذاتية تعد مصدراً من مصادر دراسة التاريخ عن فترة معينة، شرط ألا ينشرها صاحبها في حياته وإنما يكتبها لنفسه أولاً بأول وكأنه مؤرخ لإبداء رأيه في الأحداث التي يعاصرها وأشخاصها والنموذج لهذا النوع مذكرات سعد زغلول ومحمد فريد وعبد الرحمن فهمي رئيس الجهاز السري لثورة 1919... لأنهم ذكروا وقائع وهاجموا أشخاصاً واعترفوا على أنفسهم بحيث لم يكن من الممكن نشرها في حياتهم وإلا تعرضوا للقيل والقال، فمثلاً يعترف سعد زغلول على نفسه بأن داء شرب الخمر تمكن منه وكذا داء القمار، ومحمد فريد يسب شخصيات معاصرة بأقذع السباب ولو نشرها لرفعت عليه قضايا... أما الذي ينشر مذكراته في حياته فهذا نوع من الذكريات المختارة والمنتقاة؛ إذ لا يكتب عن نفسه إلا في إطار البطولة ولا يغترف بأخطائه وإنما يكتب عن الآخرين.

(طارق سعيد)