لا أحد ينكر مدى التجذّر والتغوّل الذي حصدته الحالة الدينية في المنطقة العربية في العقود الماضية، ومدى تأثير ذلك على السلوكيات الاجتماعية وانعكاساتها على الثقافة والاقتصاد والسياسة ومختلف مناحي الحياة بحيث أصبحت ظاهرة ملموسة وواضحة في شتى المجالات. صاحب هذه الحالة أن تمددت لتسحب من التراث كل ما فيه من مآثر ومعارف ومظاهر وتقاليد وقراءات، وتسقطها على الواقع الحياتي المعاش دون مراعاة للإختلاف والتنوع ومتطلبات التعايش التي يفرضه هذا العصر.

 


قبل ذلك، كان الدين حاضرا وقوّيا في المجتمعات العربية لكنه لم يكن بهذه الصورة من الكثافة والعمق والهيمنة، فالمجتمعات كانت متديّنة بشكل عام لكنه الدين البسيط الذي يعبر عنه بسلوكيات وعبادات وسطية لا تتجاوز إلى التدخل في مختلف شئون ومسالك الحياة الاجتماعية والشخصية. ولم تعش المجتمعات حينها تعارض يذكر بين تديّنها وبين التعامل مع المستجدات الحضارية على الرغم من وجود أصوات وآراء متشددة ضد كل تطور ومنتج جديد.


ما حصل هو هيمنة وسيطرة موجات من التشدد الديني التي شكلت القوة الضاربة في المجتمع ودفعت بالجميع إلى تبني هذه التوجهات أو الرضوخ لها بصورة أو بأخرى وبأشكال مختلفة بحيث تدخلت الأحكام الشرعية في كل تفاصيل حياة الانسان، وأصبحت مساحة المحرمات طاغية على كل ما هو مباح بالأصل. وأصبحت المظاهر العبادية والدينية سائدة في المجتمعات العربية، واعتبرت مقياسا لحالة التدين القائم في هذه المجتمعات. أضف إلى ذلك أنها تجاوزت المظاهر الخارجية لتتحول إلى أنماط من الانتماءات كهويات متداخلة ومتزاحمة مع الهويات الطبيعية الأخرى.


بمقدار ما حققت الحالة الدينية من إعادة ترتيب للإنتماءات والهويات في المجتمعات العربية، فقد خلقت تبعا لذلك العديد من التناقضات والإفرازات الحدية تجاه الآخر البعيد والقريب مما أوجد أرضية خصبة للكثير من النزاعات والصراعات الإيدلوجية والتي تحولت أيضا إلى أرض الواقع وطبعا تحت مسمى وشعار الدين. كما أنها صعدّت من التوترات السياسية في المجتمعات العربية وحصرت المجال العام في الجانب الديني.


تطرح هنا مجموعة من الأسئلة المهمة، من بينها ما مدى تجذّر وعمق الحالة الدينية هذه في المجتمعات العربية؟ وهل هي أقرب إلى المظاهر الحالية المتشددة السائدة المعبرة عنها، أم إلى حالة التدين البسيطة والطبيعية؟ وهل أن هناك مراجعات جادة وصادقة إلى مدى تأثير وهيمنة وسيطرة الحالة الدينية على هذه المجتمعات؟


قليلة هي الدراسات والأبحاث التي تعنى بفهم الحالة الدينية وقياس مدى تجذّرها في المجتمعات العربية، ومعرفة المنطلقات والتفاعلات الذاتية والاجتماعية التي تقود الأفراد والجماعات إلى التعبير عن قناعاتها الدينية بصور وأنماط مختلفة. أعتقد أن مثل هذه الأبحاث ضرورة للغاية لتلمس الطبيعة المجتمعية للأفراد وتأثير التدين عليهم كعامل موّجه وضاغط ومؤّثر، ضمن مهمة جادة إلى إعادة تموضع الدين في مكانه الحقيقي والطبيعي بحيث يكون قادرا على تلبية الحاجات الروحية لكنه متناغما مع المنجزات الحضارية ومتسما بالتوازن في العلاقات الإنسانية بمختلف اتجاهاتها.


 
جعفر الشايب