لطالما قال البعض: «علينا الخروج من فرضية المؤامرة. شعارُ التوطين في لبنان ليس سوى فزّاعة اخترعناها نحن. والسوريون والفلسطينيون سيعودون إلى ديارهم عاجلاً أم آجلاً». وحتى الأمس القريب، كان أصحاب هذا القول يدافعون عنه بقوة. ولكن في الأشهر الأخيرة، بدأ كثيرون منهم يتخلّون عن «فرضية البراءة»، ويقتنعون بأنّ المؤامرة أقرب إلى الواقع... والوقائع!
 

قبل يومين، أعلن نظام الرئيس (بشّار الأسد) السيطرة الكاملة على دمشق. وهذا إنجازٌ يحققه للمرّة الأولى منذ العام 2012. وقد رافقت هذه السيطرة عملياتُ إخلاء مكثّفة لعدد من المناطق والأحياء، بما فيها مخيم اليرموك الفلسطيني الأكبر في سوريا. وكانت وجهة غالبية المغادرين مناطق إدلب وحماه. وهذه المناطق، إضافة إلى مناطق أخرى في محافظة حلب، شهدت تدفّقاً سكانياً وعمليات تبادل ديموغرافي خلال الأعوام الفائتة.

وهذه المناطق باتت مثقلة جداً بالنازحين. ووفقاً لمعلومات، إنّ إدلب التي كانت تضمّ 1.5 مليون نسمة، باتت اليوم تعجّ وحدها بنحو 4 ملايين. ويقدّر أنّ بقعة إدلب، وعدداً من مناطق حماه وحلب وحمص، تحتضن الغالبية الساحقة من النازحين السوريين.

بالأرقام، عدد سكان سوريا 24 مليوناً، منهم نحو 14 مليوناً غادروا منازلهم: قرابة 8 ملايين نزحوا في الداخل السوري، و6 ملايين في الخارج، يتوزعون تقريباً كالآتي: في تركيا أكثر من مليونين وربع مليون، في لبنان نحو مليونين (نصفهم نازحون ونصفهم الآخر عمال ومقيمون خارج المخيمات) وفي الأردن أكثر من مليون وربع المليون، في العراق 250 ألفاً، في مصر 125 ألفاً، في بقية الدول العربية نحو 30 ألفاً.

ويرى بعض المتابعين أنّ القوى الدولية تمنع قيامَ الأسد بعمليات عسكرية كبيرة في مناطق انتشار النازحين في داخل سوريا لئلّا يهرب منها هؤلاء، خصوصاً إلى تركيا فتقوم بإمرارهم من المنطقة الحدودية مع سوريا إلى أوروبا. وهذا أمرٌ يبذل الأوروبيون كلّ جهودهم لتجنّب حصوله.

وبناءً على المنطلقات إياها، يرغب المجتمع الدولي، والأوروبيون خصوصاً، في تكريس إقامة النازحين السوريين في بلدان انتشارهم في الجوار، أي لبنان والأردن وتركيا. ويقدّم الأوروبيون الإغراءات لحكومات هذه الدول (الرشاوى هي العبارة الأكثر دقّة) لإبقاء النازحين في منأى عنهم.

وفي مؤتمر بروكسل الأخير، في شأن النازحين، وُضِع لبنان في شكل واضح وملموس أمام «فخّ» مدروس لتثبيت إقامة السوريين فيه، وإقرار حقّهم في العمل والتعليم والحصول على كل الضمانات اللازمة لاستمرارهم في لبنان إلى أن يقرّروا هم أنّ ظروف عودتهم إلى بلادهم باتت ملائمة. وهذا أمر لا يمكن الركون إليه أو ضبطه، لأنّ الاجتهادات والتقديرات في هذا المجال مفتوحة، ويمكن أن تبقى كذلك لسنوات.

وخلال هذه الفترة، وُلِدت وستولد أجيالٌ من السوريين في لبنان لم تحصل حتى على وثائق الولادة الكفيلة بإثبات أماكن الولادة، وهو ما سيؤدّي لاحقاً إلى نشوء مشكلة في تدقيق هوية هؤلاء وتحديد حقوقهم في المواطَنة. ويطرح حقوقيون لبنانيون وسوريون هذه المسألة على نطاق البحث لإجلاء ملابساتها وتجنّب التداعيات، ولكن عبثاً.

لذلك، كان صادماً إمرار المادة 49 من الموازنة، بلا ضجيج، وبما يشبه الإجماع، بما يلاقي مطالب القوى الدولية لتسهيل إقامة السوريين في لبنان حتى إشعار آخر. والإمعان في التسهيل فضَحَه خفض السقف المطلوب لسعر الشقّة التي على الأجنبي أن يشتريها في لبنان لتكريس حقّه في الإقامة.

ففيما كان المشروع المقدّم يقول بسقف المليون دولار في بيروت ونصف المليون خارجها، تمّ خفض السقف إلى نصف مليون و330 ألفاً على التوالي. وهذا أمر يحمل في طياته كثيراً من الشكوك. كما برز الإصرار في تعديل المادة لفظياً مع الإبقاء على مضمونها (أصبح رقمها 50). ولولا الطعن وتحذير بكركي ومراجعة رئيس الجمهورية وحزم المجلس الدستوري، لمرّت المادة بموافقة شاملة.

والأشدّ خطراً هو أنّ إقرار هذه المادة تزامن (أو تكامل) مع إصدار الرئيس السوري بشّار الأسد المرسوم الرقم 10، في 2 نيسان، بهدف ضبط الواقع العقاري في سوريا. وهو مرسوم سيؤدّي تطبيقُه إلى تغيير سوريا ديموغرافياً في شكل جذري.

والمرسوم تمّ إصدارُه تحت عنوان الإفادة من فرصة إعادة الإعمار لتحديد الملكيات العقارية وتطبيق تنظيم مدني مناسب في مناطق كانت مبنيّة عشوائياً ويسكن فيها مئات الآلاف أو الملايين من المواطنين بلا قيود تثبت ملكياتهم لها. ولكنه، عملياً، سيكون فرصة للتخلّص من شرائح سياسية وطائفية معيّنة في هذه المناطق، مقابل تقديم إغراءات لآخرين للقدوم إليها والتملّك فيها.

كما أنّ شركات عقارية يمتلكها قريبون من النظام أو تحظى بتغطية منه ستتولّى جزءاً كبيراً من المهمة. ولن يجرؤَ كثير من المعارضين، وهم في غالبيتهم من السنّة، على الحضور إلى الدوائر الرسمية للتقدّم بإثباتاتهم خوفاً من اعتقالهم. وإلّا فالحلّ أمامهم هو إعلان الولاء للنظام… إذا عفا عنهم!

إذاً، في سوريا يتكرّس فرزُ المناطق طائفياً، وفي منطقة نفوذ الأسد، سيكون مُجدياً التخلّص من وزنٍ ديموغرافي ثقيل ذي غالبية سنّية. ولا مشكلة في بقاء هؤلاء نازحين في الداخل والخارج. وطبعاً، تلتقي رغبة الأسد مع رغبة المجتمع الدولي الحريص على حصر انتشار النازحين في الأماكن الموجودين فيها حالياً، لئلّا يتدفّقوا إلى أوروبا ويجلبوا معهم المخاطر الأمنية.

والمثير أنّ القوى النافذة في بيروت توافق على المبدأ، وليس واضحاً إذا كان ذلك كُرمى لعيون الأوروبيين أو لعيون الأسد أو للطرفين معاً. لذلك، تعاطى لبنان الرسمي مع الملف منذ اليوم الأول باعتباره «مزراب ذهب» سيتدفّق من المؤتمرات!

لم يطرح قادة لبنان أزمة النازحين- أمام العالم - في اعتبارها أزمة كيانية، بل بصفتها أزمة دولارات… وزادت في ذلك حاجة لبنان الماسة إلى المساعدات، نتيجة الفساد المستشري. وأطلق المجتمع الدولي وعوداً بتزويد لبنان الدولارات، شرط التزامه الشروط والمطالب المتعلّقة بالنازحين.

تدرك المؤسسات الدولية أنّ الإصلاح في لبنان من رابع المستحيلات، وأنّ التركيبة الطائفية- الإقطاعية المتخلّفة لغالبية الزعماء في لبنان ستبقيه رهينة الفساد. وعاماً بعد عام، ستتضاعف ديونُه ويزداد العجز.

من «باريس 1» و»باريس 2» (الرئيس رفيق الحريري) إلى «باريس 3» و»سيدر 1» (الرئيس سعد الحريري)، يطلق لبنان وعوداً بتحقيق الإصلاحات المنشودة سياسياً واقتصادياً لكنه يتخلّف، فيمنحه المجتمع الدولي فرصاً جديدة ومساعدات.

وهكذاً، يقع لبنان تحت وطأة ابتزاز يتسبّب به «أولياءُ أمره» الذين «يستثمرون» في النازحين… وفي الفساد! وقد يأتي اليوم الذي يصبح فيه لبنان عاجزاً تماماً عن الصمود. وعندئذٍ، سيُقال لزعمائه: خذوا. هذا ثمن التوطين إذا أردتم أن يبقى البلدُ واقفاً على رِجليه! والأرجح، لن يكون هناك كثيرون يقولون «لا».

وهذا الكلام على توطين مبطّن للسوريين ينطبق أيضاً على توطين مفضوح للفلسطينيين (نحو نصف مليون في لبنان). وهذا الأمر يُعمَل له منذ عشرات السنين، وتستعدّ إسرائيل لفرضه في اللحظة المناسبة. وربما يكون تكريسُ القدس عاصمةً لها هو أوّل الغيث في هذا المسار.

يكفي توطينُ جزءٍ من السوريين والفلسطينيين في لبنان (يقاربون معاً 2.5 مليون نسمة) لزعزعة لبنان الكيان. ولذلك، يبدو مريباً ما يحضَّر للبنان وسائر كيانات الشرق الأوسط في المطابخ الدولية والإقليمية. ويبدو مريباً أكثر كيف أصبح الفسادُ اللبناني هو الطريق الأفضل لاستسلام لبنان أمام المؤامرات.