لا تزال العلوم الإنسانية في العالم العربي تعاني من إشكاليات التأصيل في مناخ يختلف عن ذلك الذي تأسّست فيه، فما بالنا بنقدها وتجاوزها. غير أن كتاب "إبستيمولوجيا السُّوسيولوجيا"، الصادر مؤخراً عن "دار التنوير" و"مركز دراسات فلسفة الدين"، للباحث العراقي محمد حسين الرفاعي يقترح قراءة نقدية في علم الاجتماع وفي إنتاج المعرفة عربياً بشكل عام.

عادةً ما ترتبط الإبستيمولوجيا بالعلوم الصحيحة. فما الذي يتغيّر حين تنتقل إلى العلوم الإنسانيَّة؟ يقول الرفاعي في حديث إلى "العربي الجديد": "يرتبط هذا التَّساؤل بفهم كلاسيكي للفلسفة بعامَّةٍ، وللإبستيمولوجيا بخاصَّةٍ. في جذره، هذا التَّساؤل، وما يتفرّع عنه، يتساءل عن شيء آخر هو هذا: هل يمكن أن تبلغ العلوم المجتمعيَّة والإنسانية مستوى العلوم الصحيحة أو لا؟ وبما أنني كنتُ قد أتيت من العلوم الصحيحة؛ الرياضيات وعلوم الكومبيوتر، فأقول إنَّ التعقيد في علوم المجتمع، والإنسان، إنَّما هو مُكَوِّن أساسي لموضوع علوم المجتمع والإنسان. وذلك عائد إلى أن الموضوع في العلوم الصحيحة قائم وجاهز ويقدم نفسه كشيء ليس يتطلَّب بناء انطلاقاً من وجود نموذج معاينة جاهز على أساس معادلات عقلية جاهزة. لكن، يعني الانتقال إلى علوم المجتمع والإنسان الإنتقالَ إلى عالَم مجهول، ضبابي، ملتبس، غير واضح المعالم، في كُليَّتِهِ. أكاد أقول هو انتقال إلى الفوضى. ومن جهة كونه كذلك، فإنَّ موضوع علوم المجتمع والإنسان، إنَّما هو في طور من الانتظار الدائم".

يضيف: "في هذه الحال، نكون أمام إبستيمولوجيا العلوم المجتمعيَّة والإنسانية في اللَّحظة التي نكون فيها مستعدِّين للانتقال من أي موقف أيديولوجي يرى العالَم ضمن موقفَيْ: المع والضد إلى موقف إبستيمولوجي- علمي يفهم الصراع المعرفيّ بين النظريَّات والمفاهيم والمناهج والأفكار بوصفه شيئاً يتطلَّب الفهم، وبناء الفهم به، بالإضافة إلى الانفتاح على التعقيد ثم الكشف عن السُلَطِ المختلفةِ التي تمارس تحكُّمَها وضَبطَها للممارسة العِلميَّة في مجتمعاتنا العربيَّة".

عن واقع الأبحاث الإبستيمولوجية اليوم في العالم العربي، يقول: "لدينا في الغالب أبحاث تنقل المعرفة الإبستيمولوجيَّة وليس لدينا بعدُ أبحاث إبستيمولوجيَّة. كل ما فعلته الأجيال العربية السابقة إنَّما يتمثَّل في نقل المعرفة العِلميَّة بالإبستيمولوجيا كما هي في بلدان العلم في الغرب. وهو ما نلاحظه في أعمال لعابد الجابري وعبد القادر بشته وعبد السلام بنعبد العالي وسالم يفوت وغيرهم. الإبستيمولوجيا تُقدَّم هنا كشيء جاهز ينتظر أن يُمارس، على هذا النحو أو ذاك. ولم تَقُم إبستيمولوجيا خاصَّة بعلوم المجتمع والإنسان، كما هي، في بلداننا العربيَّة".

يقتضي الخوض في نقد العلوم الاجتماعية الاستناد إلى مراجع متعدّدة، فهل يجد الباحث العربي ما يفي بحاجته في المكتبة العربية؟ يجيب الرفاعي: "في الحقيقة، لا يتوقف المشروع لديَّ على وجود، أو عدم وجود مراجع، و مصادر. كما، وفي الوقت نفسه، لستُ أنكر عمل الأجيال السابقة من المفكرين والباحثين في بلداننا العربيَّة. وكذلك، لستُ، على الإطلاق، مع مقولة "قتل الأب" الخارجة تماماً عن كل ضروب الأخلاق بعامَّةٍ، والأخلاق العِلميَّة بخاصَّةٍ. لا يمكن أن ننكر فضل الجابري وجورج طرابيشي ومحمد أركون وعبد الجبار الرفاعي وغيرهم. ولكن، ثَمَّ شيء، ههنا، هو منسيٌّ. إنَّه ضرب من التفكير خارج المعرفة الشائعة والسائدة المتعلقة بعلوم المجتمع والإنسان في بلداننا. بعبارة أكثر صرامةً: إنَّ تساؤل العلم، في مجتمعاتنا العربيَّة، ليس ناهضاً بعدُ".

يتابع قائلاً: "إنَّنا، نحن العرب، منذ قرنين من الزمان الكرونولوجي، ليس لدينا في الفكر، وضروب التفكير المختلفة، إلاّ مواقف فكريَّة- أيديولوجيَّة، هي في أحسن الأحوال تقع ضمن موقفي المع والضد. ولكن، في المقابل، صحيح أن العلم يستند إلى ضرب من فهم العالَم يقوم على أيديولوجيا بعينها، ولكن، ليس صحيحاً، على الإطلاق، الوقوع في فخِّ هذين الموقفين، ونسيان موضوع العلم الأصليّ، في علوم المجتمع والإنسان، في المجتمعات العربيَّة. إنَّ أي ضرب من نسيان الموضوع في العلم إنَّما هو ضرب من الحجب والتحجيب".

سلوى السيّاب