«نكبة» 1948 التي تحلّ ذكراها اليوم، أين تقع؟ في الماضي، كما يقول ضمناً معظم الإسرائيليّين، أم في المستقبل، كما يقول ضمناً كثيرون من الفلسطينيّين والعرب؟

إنّها تقع في الإثنين:

في الماضي: لأنّ أجيالاً من الإسرائيليّين وُلدوا هناك، ولا يعرفون غير هذه الأرض. أمّا إعادتهم إلى حيث جاؤوا، أو إخضاعهم لحكم عربيّ، لا سيّما في زمن انفجار الهويّات، فأشبهُ بأفلام الخيال العلميّ. وهي أيضاً تقع في الماضي لأنّ أجيالاً من الفلسطينيّين ولدوا في بلدان أخرى وصاروا جزءاً منها أكثر ممّا هم جزء من فلسطين.


لقد نشأت إسرائيل في الحقبة التي قامت فيها الاستقلالات العربيّة. ولأسباب كثيرة، بدا أنّ الحدثين متناقضان: إمّا أو... اليوم للأسف تبدو النشأة الإسرائيليّة أمتن كثيراً من الاستقلالات العربيّة ودولها. المتانة ليست في القوّة العسكريّة فحسب. إنّها أيضاً في الديموقراطيّة والاقتصاد والتعليم.

لكنّ «النكبة» تقع في المستقبل أيضاً (وكلمة مستقبل ليست مضيئة بالضرورة): فما دامت إسرائيل لا تعترف بـ «النكبة» ولا تناقشها، رافضةً أن تسدّد دَينها الأخلاقيّ والسياسيّ للفلسطينيّين الذين اقتلعتهم وهجّرتهم، ولأنّها تعيق إنشاء دولة فلسطينيّة، فهذا ما يبقي الموضوع مطروحاً على أجندة المستقبل. في الاتّجاه نفسه يصبّ تعليق أوضاع الفلسطينيّين في الدول العربيّة التي لجأوا إليها. الأنظمة وكذلك المجتمعات تُبقيهم «فلسطينيّين» وتضلّلهم بـ «العودة» لأنّها لا تريدهم مواطنين فيها.

انهيار أوسلو ومسار التدهور اللاحق دفعا كلّاً من الروايتين إلى حدودها القصوى.

القائلون إنّها ماضٍ ونقطة على السطر، مارسوا اللصوصيّة والاحتيال. لقد أجلسوا «الاستقلال الإسرائيليّ» فوق الجثّة الفلسطينيّة المحجوبة. «الاستقلال» هذا قُدّم كقطْع مع تاريخ العذاب اليهوديّ فحسب، وكإقلاع إلى مستقبل نظيف. أمّا أن يكون بدايةً للعذاب الفلسطينيّ فهذا ممنوع. خرافة أرض اليهود ووعد الله نقلت المونولوغ الإسرائيليّ إلى سويّة المقدّس. الفلسطينيّون، في هذا المونولوغ، أتوا من عدمٍ ولم يحضروا إلاّ كشغَب على مشيئة الله.

القائلون إنّ «النكبة» مستقبل ونقطة على السطر، واجهوا خرافة «أرض اليهود» بخرافات من نوع «إسرائيل مخفر إمبرياليّ». تجربة الألم اليهوديّ في أوروبا تقلّصت، والحال هذه، إلى شيء يتراوح بين كذبة صهيونيّة ملفّقة (كما يقول اللاساميّون العرب) ووظيفة توظيف صهيونيّين (كما يقول الذين يدينون اللاساميّة). لقد أُسبغت كلّ النعوت على قيام إسرائيل بما يجعله حدثاً فريداً. وككلّ شيء فريد، لا بدّ من حلّ فريد له، فريدٍ إلى حدّ يستحيل معه الحلّ. الأنظمة العسكريّة – القوميّة فعلت فعلها في تعميم هذا «التحليل» لغرض في نفسها هو تحويل الأنظار عن هزال شرعيّتها. هكذا تبلورت «قضيّة» تشبه الثأر العشائريّ الذي لا سبيل إلى معالجته، لا بالسياسة يُعالَج ولا بالحرب.

إسرائيل، بنتيجة الاكتفاء بنظريّة «الماضي وحده»، طوّرت آثامَ ولادتها قسوةً وتنضيباً للروح والوجدان. العرب الذين تسمّروا عند نظريّة «المستقبل وحده» لم يحلقوا لُحاهم في انتظار أن يثأروا. الثأر لم يتحقّق واللحى طالت.

بعد سبعين عاماً، وفي صراع الماضي المطلق والمستقبل المطلق، يُخشى أن تخرج «النكبة» من التاريخ. القداسة وحدها جاهزة لإيوائها، والقداسة، على الأرض، خلطة من حقد ووحل ودم.