(الى شاندي وبرابا وفادي ومحمد وعلي) 
 
السؤال موجّه الى النقابات اللبنانيّة أساسًا، لكنّه يهدف أيضًا الى فتح نقاش واسع حول العمّال الأجانب بشكل عام والعمّال اللاجئين والنازحين بشكل خاص.
 
تعمّدتُ طرح الموضوع في عيد العمّال العالمي. وهو عالمي لأنه يعني جميع العمّال، بغض النظر عن جنسهم وعمرهم وعرقهم وجنسيتهم.
 
يعني جميع العمّال، أصحاب العقود الدائمة والضمانات الإجتماعيّة والصحيّة، وأصحاب العقود الموقتة أو بدون عقود، والذي يفتقرون الى ابسط الضمانات الإجتماعيّة والصحيّة. هذه الفئة الأخيرة يتزايد عددها نسبةً الى اليد العاملة الإجمالية، بفعل العولمة والسياسات النيوليبيرالية.
 
يعني جميع العمّال، الذي يعيشون في بلدهم وبين أهلهم وفي بيوتهم، والذين اضطرتهم ظروف قاهرة الى الهجرة من بلدهم والعمل في بلد آخر مع اهلهم أو بعيدًا عنهم، وفي شروط عمل صعبة ومذلة في بعض الأحيان.
 
لعل عيد العمّال العالمي هو أقرب الى قلوب العمّال الذين لا يزالون يفتقرون الى ابسط الحقوق، إذ ان العيد يذكّرنا بعمّال شيكاغو الذين تظاهروا وقتل بعضهم في العام 1886 لأنهم كانوا يطالبون بثماني ساعات عمل في اليوم بدل ساعات العمل الطويلة التي كانوا يُجبرون عليها.
 
أمن البديهي إذاً ان تعايد النقابات اللبنانية العمّال اللاجئين والنازحين في عيد العمّال العالمي؟ ليست المسألة بهذه البساطة.
 
البارز اعلاميًّا في مواقف الاتحاد العمّالي العام هو اعتراضه الشديد على منافسة العمّال الاجانب للعمّال اللبنانيين. أي ان اللاجئ الفلسطيني أو النازح السوري أو أي عامل أجنبي آخر، يُنظر اليه بصفته "منافسًا" للعامل اللبناني في سوق العمل. من خلال هذه النظرة يجري وضع الأول في مواجهة الثاني.
 
المواقف النقابية تتوضّح أكثر اذا ما نظرنا الى نتائج دراستين أجريتهما حديثًا: الأولى مع العمّال الفلسطينيين في قطاع البناء، والثانية مع نقابات الخدمات العامة (كهرباء، مياه، ضمان إجتماعي، مرفأ بيروت ومطار بيروت) وقد شملت في الواقع نقابات تونس والجزائر، ودرست مواقف النقابات تجاه العمّال النازحين والعمّال المهاجرين بشكل عام.
 
الدراسة مع العمّال الفلسطينيين دلّت على ما يأتي:
 
- لا ينتسب معظم عمال القطاع الى النقابات اللبنانيّة على رغم السماح لهم قانونًا بذلك لكن من دون ان ينتخبوا او يُنتَخبوا.
 
- أقليّة تنتسب الى النقابات الفلسطينية في لبنان.
 
- العمّال لا يتّصلون إلاّ نادرًا بالنقابات اللبنانيّة والفلسطينيّة، وهذه النقابات المعنية بالقطاع لا تتصّل بهم أيضًا وخصوصاً في الفترة الأخيرة.
 
- لا ثقة للعمّال بالنقابات اللبنانيّة ولا بالنقابات الفلسطينيّة.
 
- هذه العلاقة شبه المقطوعة مع النقابات لا يفسّرها رضاهم عن ظروف العمل. على العكس من ذلك، تعمل أكثريّة العمّال بدون إجازة عمل عقد وعلى أساس يومي وبتقطع متزايد، ليس لديها تأمين صحيّ ولا تعويض نهاية خدمة، ولا تستفيد من إجازات مرضية او سنوية مدفوعة الأجر.
 
- العمّال الفلسطينييون يتذمرون من منافسة العمّال السوريين لهم ولا سيما بعد النزوح.
 
- قسمٌ منهم لا بأس به، لا يزال يرى، على رغم عدم ثقته بالنقابات، ان المشاركة في النقابات يمكن ان تحسّن أوضاعه. في المقابل قليل منهم يعوّل على دعم العائلة أو على الزعامات السياسية.
 
امّا مواقف قيادات نقابات الخدمات العامة في لبنان فيمكن اختصارها بما يأتي:
 
- لا يوجد عمّال مهاجرون او نازحون في هذه النقابات.
 
- على رغم وجود عمّال مهاجرين موسميين يعملون في بعض المنشآت العامة من خلال متعهدين، الا انهم لا ينتسبون الى النقابات المعنيّة، وهذه النقابات لا تعمل بدورها على تنسيبهم. وقد اشار احد رؤساء النقابات إلى انه، بحسب النظام الداخلي القديم للنقابة، كان يحق لهم تنسيب عمّال اجانب، لكن المادة حُذفت في النظام الجديد. وعند سؤاله عن السبب هزّ بكتفيه ولم يجب.
 
- ليس لدى القيادات النقابيّة معلومات دقيقة او ليس لديها معلومات على الاطلاق حول نسبة العمّال الاجانب في مختلف القطاعات الاقتصاديّة.
 
- لم يسبق ان اصدرت هذه النقابات بيانًا في شأن العمّال الأجانب. الأسباب المعطاة لذلك، ان الموضوع لا يهمهم كثيرًا وان عليهم التركيز على مشاكلهم وديمومة عملهم. كما ذكر البعض ان موضوع النازحين "سياسيّ" ويجب الابتعاد عنه. على رغم ذلك، جرى رصد بيان من نقابة عمال مياه الشمال يطالب موظفي القطاع الاهتمام بالنازحين ومعاملتهم كأهلهم؛ كما ان نقابة مرفأ بيروت طالبت بقوننة وجود العمّال الاجانب وحماية العمالة الوطنيّة.
 
- بالنسبة إلى موضوع منافسة العمالة الأجنبيّة للعمالة الوطنيّة، جرى التركيز على مشكلة البطالة وانه يجب ان تكون الأفضليّة للعامل اللبناني وتطبيق القانون بالنسبة إلى القطاعات التي يحق للعامل الأجنبي ان يعمل فيها وبحيث يعيش باحترام، لكن في المقابل عليه ان يدفع ضرائب للدولة.
 
- معظم المستجوبين غير مطّلعين على الاتفاقات الدولية الخاصة بالعمالة المهاجرة: اتفاقا رقم 97 و 143 لمنظمة العمل الدولية. اتفاق الأمم المتّحدة الخاصة بالنازحين وتلك الخاصة بالعمّال المهاجرين وأفراد عائلاتهم.
 
- لكن أكثرية المستجوبين في المقابل موافقة على مضمون المادة 6 من اتفاق العمل رقم 97 الذي ينص على معاملة الدولة من دون تمييز "للمهاجرين الموجودين بصورة قانونية على اراضيها"، وذلك بالنسبة إلى الاجور والتقديمات الاجتماعيّة والصحيّة وساعات العمل والتدريب والعضويّة في المنظمات النقابيّة. مع العلم ان لبنان لم يوقّع اتفاقي منظمة العمل الدوليّة ولا اتفاقي الأمم المتّحدة.
 
- الموافقون على المساواة في المعاملة بين العمالة الوطنية والاجنبية، اشترطوا ان يحصل اللبنانيون على هذه الحقوق أولاً وان يكون هناك معاملة بالمثل من بلدان العمالة الوافدة. أمّا المعترضون فكانت لهم مواقف حادة وخصوصاً من العمالة السورية حيث اعتبروا ان وجودهم الكثيف يحمّل الاقتصاد اللبناني عبئًا لا يقدر عليه، كما انهم يتلقون مساعدات دولية تجعل وضعهم أفضل بكثير من بعض اللبنانيين، ولا سيما ان النازحين يستفيدون من الخدمات العامة، من تعليم وصحة وكهرباء وماء، مما يشكّل عبئًا على الموازنة العامة وعلى البنية التحتية، في حين انهم في المقابل لا يدفعون بدل هذه الخدمات.
 
- سعت هذه الدراسات الى معرفة موقف النقابات ومدى استعدادها للانخراط في مشروع ينظّمه الاتحاد الدولي لنقابات الخدمات العامة، ويهدف الى تفعيل مشاركة النقابات اللبنانية في مجال تأمين حقوق العمّال المهاجرين والنازحين في العمل واستفادتهم من الخدمات العامة في البلاد. معظم المشاركين صرّحوا بأن المشروع لفت انتباههم الى قضايا لم يكونوا يهتمون بها من قبل. ومع تأكيدهم الملاحظات الواردة في النقاط أعلاه، أبدوا استعدادهم للمساهمة بعدما أشاروا الى صعوبتين: اولاً جهل معظم النقابيين بالقوانين المحلية والدولية الخاصة بالعمّال المهاجرين والنازخين، وصعوبة تسويق هدف المشروع مع القاعدة العمّالية غير المعنية بشكل عام بالموضوع.
 
إن هاتين الدراستين غير كافيتين بالطبع لرصد المواقف النقابيّة اللبنانيّة من موضوع العمّال المهاجرين بشكل عام والعمّال اللاجئين والنازحين بشكل خاص. كما ان الدراستين لا تبرزان بشكل كاف الاشكاليات المتعددة التي تطرحها العمالة المهاجرة في الظروف اللبنانية الحالية. ونحن تالياً، نشجّع الباحثين على الاهتمام بالموضوع وإغنائه بالمزيد من الدراسات المعمّقة وفي القطاعات كافةً.
 
على ضوء ما تقدّم، نقترح ان يأخذ الموقف النقابي في القضايا والمسائل الآتية:
 
أولاً: النقابة في معناها الأساسي وفي أساس نشأتها، هي مبادرة عمّاليّة جماعيّة لوقف المنافسة بين العمّال في سوق العمل ومن خلال الوحدة والتضامن وذلك بغية مفاوضة صاحب العمل ككتلة واحدة، على قيمة العمل وشروطه. والمنافسة يمكن ان تكون في الحالة اللبنانية بين العمّال اللبنانين انفسهم وبينهم وبين العمّال الأجانب.
 
ثانيًا: التفاوض يمكن ان يستند الى الحقوق العمّاليّة التي نصّت عليها الاتفاقات الدوليّة وحرصت على تطبيقها على العمّال المحليين والاجانب على حد سواء. هذه المساواة لا تحافظ فقط على حقوق العمّال الاجانب بل يؤمّن تطبيقها زيادة قدرة العمالة الوطنية على منافسة العمالة الاجنبية. حيث لا يستطيع صاحب العمل في هذه الحالة تفضيل استخدام العمّال الاجانب بحجة انحفاض مستوى اجورهم وغياب تكاليف تقديماتهم الاجتماعيّة.
 
ثالثًا: ضرورة التأكّد من صحة الاحصائيات المتداولة حول العمالة الاجنبيّة وتقصّي الحقائق حول توزيع اليد العاملة الاجنبيّة على القطاعات الاقتصاديّة. وفي هذا المجال ضرورة التعاون مع منظمات المجتمع المدني الناشطة في هذا الميدان.
 
رابعًا: تفعيل عمل المؤسسة الوطنية للاستخدام التي من مسؤوليتها، "رسم وتنفيذ سياسة الاستخدام في لبنان بصورة عامة"، وذلك من خلال الحوار الاجتماعي المفترض قيامه في مجلس ادارتها بين الأطراف الثلاثة، الدولة والعمّال وأصحاب العمل. هكذا وعبر معرفة دقيقة لواقع القطاعات الاقتصاديّة وحاجتها إلى اليد العاملة، تساهم النقابات في تحديد ما تطالب به تحت عنوان "تنظيم اليد العاملة الاجنبيّة".
 
خامسًا: تحصين الرأي العام النقابي ضدّ المواقف العنصرية تجاه النازخين السوريين التي تروّج لها الطبقة السياسية بحجّة الدفاع عن المصلحة الوطنية ومنع التوطين. فلا تبعية الطبقة السياسية تجاه المحاور الأقليمية ولا انغماسها في المصالح المذهبية الضيقة، يسمحان لها بادعاء الحرص على المصلحة الوطنية. أضف إلى ذلك إستخفاف هذه الطبقة بالاستقلاليّة الاقتصادية الوطنية عبر سياساتها الداعمة للاستيراد والديون والاستثمارات الخارجية، على حساب تقوية القطاعات الانتاجية الوطنية.
 
سادسًا: الانتباه الى ان النقابات لا تواجه فقط جبروت سوق العمل الذي يضع العمّال وجهًا لوجه من خلال منافسة شرسة. انها تواجه أيضًا في الحالة اللبنانيّة طاعون "سوق المذاهب والطوائف" المتنافسة في لبنان والمنطقة ككل، التي تتلطّى تأثيراتها خلف المواقف من العمالة الاجنبية والسورية خصوصاً.
 
سابعًا: ضرورة مشاركة النقابات في تحديد السياسات العامة التمويليّة والخدميّة والتوظيفيّة الخاصة باللاجئين والنازحين، وكذلك بتلك المتعلّقة بالمشاريع الاستثمارية (مؤتمر سيدر) أو بمشاريع استخراج البترول والغاز.
 
ثامنًا: لا يكتمل الموقف النقابي الصحيح، بدون العمل الجدّي على تنسيب العمال الاجانب الى النقابات، ضمانًا لحق العمّال أجمعين في الانضمام الى النقابات. أو على الأقل ان تحرص النقابات اللبنانية على حماية حق العمّال الأجانب، المهاجرين أو اللاجيئين أو النازحين، في تأسيس لجانهم أو نقاباتهم دفاعًا عن حقوقهم ومصالحهم.
 
لقد صرّح رئيس الحكومة سعد الحريري أخيرًا في مؤتمر بروكسل 2 حول النازحين السوريين بأن البلد أصبح مخيّمًا كبيرًا.
 
أستعيد في نهاية هذا المقال ما كتبته في مقال سابق في "النهار" ("في محاسن المخيّم الكشفي"): "المسألة بحاجة الى مقاربة انسانيّة، لا مذهبيّة ولا وطنيّة عنصريّة. بحاجة الى أخلاقيّات جديدة نبدعها من منطلق اننا كلّنا بشر، أحفاد لاجئين، أو لاجئين أو مشروع لاجئين... هل نرأف بأنفسنا وننظّم وضعنا على شاكلة المخيّم الكشفي، حيث يتجاور البشر والخيم بسلام، من خلال صيغة سياسيّة – اقتصاديّة – اجتماعيّة، توثّق كما في المخيّم الكشفي، بين الإتكال على الذات والتعاون، في جوّ من الحريّة واحترام البيئة".
 
النقابات العمّاليّة هي الأقدر من حيث المبدأ، وإنطلاقًا من قيمها في الحريّة والتضامن، على جعل حلم هذا المخيّم الكشفي أمرًا ممكنًا.