إنّ حصر المجلس الدستوري قراره الأخير تجميد المادة 49 من قانون الموازنة، لا يعني أنه سيتجاهل مضمون الطعن بالمواد المخالفة الأخرى. فهو بذلك تجاوز قطوعاً كبيراً أراده له البعض لو جَمّد العمل بالفصل الرابع من الموازنة، لِما سيعكسه من هزّة كبيرة في قطاعات واسعة وتأليب للرأي العام على أصحاب الطعن. ولذلك، فقد حصر مهمته بـ»اغتيال فارس الموازنة». فكيف ولماذا؟
 

لم يكن مستغرباً أن يقابل اللبنانيون، من مختلف المواقع الرسمية والحزبية والسياسية، القرار الذي اتخذه المجلس الدستوري بتجميد العمل بالمادة 49 من قانون الموازنة تمهيداً للنظر بالطعن الشامل والواسع الذي تقدّم به 10 نواب بغية تعديل وإعادة النظر وإلغاء مواد من قانون الموازنة العامة لسنة 2018.

كما لم يكن مستغرباً أن يطلّ أحد النواب للتشكيك بأهمية قرار المجلس مُقلّلاً من أهميته بعدما «اغتال» ما يسمّى «فارس قانون الموازنة»، متجاوزاً مواقف المرجعيات الكبرى حتى تلك التي حرمت صفة الدفاع عن مادة «غليظة» تمّ «تهريبها» في متن قانون الموازنة لغايات «مشبوهة» لم يستسغها أحد.

فموقف رئيس الجمهورية بعد أقل من ساعة على تسجيل طلب الطعن الذي تقدّم به النواب العشرة امام المجلس الثلثاء الماضي، بتجميد مبادرته في اتجاه المجلس النيابي، كان ينبغي ان ينعكس وقفاً لكل المواقف التي تدافع عن «المادة 49» في شكلها ومضمونها وتوقيتها والمخاطر المُحتملة والناجمة منها، ولا سيما منها تلك التي صدرت من «أهل بيت الرئيس» وتيّاره، بعدما أنهى بالتكافل والتضامن مع رئيس مجلس النواب مفاعيل الرسالة التي وجّهها إليه لتفسير هذه المادة نظراً الى حجم الملاحظات التي تناولتها، وهي التي تتصل بمنح الأجانب من عرب وغربيين إقامة دائمة مقابل تَملّك شقة في لبنان بشروط مختلفة بين العاصمة، وأي منطقة لبنانية أخرى.

وتأسيساً على هذه المعادلة البسيطة، لا يخفي خبراء دستوريون ومراقبون الجهود التي بذلها بعض أهل السلطة لدفع المجلس الدستوري الى اتخاذ خطوة اكبر من تلك التي أقدمَ عليها. ليس من اجل التجاوب مع مضمون الطعن الدستوري والترحيب به، ولا تأييداً لِما جاء فيه من ملاحظات دقيقة ومكتملة فَنّدت المخاطر المحيطة بالخطوة، بل لِجَر البلد الى أزمة حقيقية في مرحلة تواجه فيها المنطقة ولبنان أخطر المخططات الجاري تنفيذها لإعادة النظر في تركيبتها الديموغرافية التي تحاكي الاعتراف المُتنامي بـ«يهودية» الدولة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعمليات «الفرز المذهبية» التي تعيشها سوريا وإعادة النظر في تركيبتها العشائرية والقومية بنحو لم يعد خافياً على كثيرين في العالم والمنطقة.

وعليه، فقد كشف خبراء ومراقبون انّ هناك من حاول استدراج المجلس الدستوري في اجتماعه الثلثاء الماضي الذي خصّص للنظر في الطعن شكلاً وتوقيتاً في مرحلة أولى من دون المضمون وقبوله شكلاً او رفضه، الى التوسّع اكثر ممّا طلبه الطاعنون عندما بادرَ البعض الى المطالبة بتجميد العمل بـ«الفصل الرابع من الموازنة كاملاً». وهو ما يؤدي الى شَل البلد ووقف العمل بالموازنة وكل ما قالت به من تقديمات، عدا عن إعادة تصويب الصرف المالي ووقف العمل بالقاعدة الإثني عشرية وسياسة نقل الإعتمادات من بند الى آخر، وما يرافقها من هدر وصعوبة في مراقبة حركة الإنفاق.

كان هذا البعض ـ في رأي الخبراء والمراقبين أنفسهم ـ يريد من اقتراحه «المتقدّم» على مضمون الطعن الإطاحة بما تحقق في القانون العتيد من مطالب القضاة الذين شَلّوا السلك القضائي قبل إعادة تصويب وتصحيح ما أصاب «صندوق التعاضد»، وما يتمتعون به من امتيازات أخرى مختلفة كانت قد سحبت منهم. والمَس بحقوق ومكاسب موظفي القطاع العام والمؤسسات العامة والهيئات المستقلة والجامعة اللبنانية والبلديات الذين ينتظرون الموازنة لنَيل فروق سلسلة الرتب والرواتب المجمّدة منذ أواخر آب الماضي.

وأمام هذا السيناريو المُربك بكل مظاهره، والذي يتماشى مع رغبة «من يريد حرق البلد لإشعال سيجارته»، والذي قاد الى جلسة مناقشات حامية وَردت في أذهان بعض الأعضاء السيناريوهات السلبية المحتملة. وتحديداً ما يمكن ان يؤدي إليه تجميد العمل بكل هذه القضايا الحياتية التي تمسّ يوميات اللبنانيين من المدنيين والعسكريين والقضاة وغيرهم في القطاعات المختلفة، ولو لمدة شهر تاريخ البَت النهائي بالطعن الدستوري.

وزِد على ذلك ما هو متوقّع من النتائج السلبية المُترتّبة على تأجيل تنفيذها او تجميدها والبلبلة المُحتملة في الوزارات والمؤسسات العامة التي بدأت بتطبيق الدوام الجديد قبل اسبوع، وتحديداً منذ تاريخ نشر القانون العتيد في «الجريدة الرسمية».

وعليه، فقد بلغت المناقشات مرحلة تحديد المستفيد من هذه الخطوة الكبيرة، فلم يوجد سوى قلة ممّن تَولّوا الدفاع ومعهم بعض المقترحين من ممثلي الهيئات الإقتصادية عن مادة شكّلت «حصان الموازنة» أمام المجتمع الدولي عشيّة مؤتمر «سيدر واحد».

وبعدها، ردّ أصحاب الرأي الآخر بنظرية متكاملة لحظوا فيها مخاطر المَس بأمن الدولة والانتظام العام في الإدارة، فكان الإنقلاب في المواقف الذي أدى الى إعادة تصويب النقاش في اتجاه المادة 49 التي يمكن ان يتسبّب تنفيذها بأضرار فادحة تلحق بمصالح الدولة ومواردها المالية قبل ان تلحق بالناس الراغبين الاستفادة منها. فلربما كان هناك من ينتظرها للإسراع بخطوات التملّك المشبوه في بعض المشاريع العقارية الكبرى بغية الحصول على الإقامات السنوية الدائمة.

وزاد من الإصرار على حَصر البحث بـ«اغتيال» هذه المادة لوحدها في اعتبارها كانت مادة الرسالة الرئاسية الى مجلس النواب قبل طَيّها، والهادفة الى إعادة النظر فيها تعديلاً او تأكيداً لمضمونها، فكان القرار بالإجماع بتطييرها. فهي في رأي الخبراء الدستوريين مادة «غريبة» عن جسم الموازنة تمّ «دَسها» في القانون في أسوأ توقيت. فالبلد قد دخل مدار الإنتخابات النيابية، وتحديداً في المربّع الأخير لها.

وبعدما تمّ التوصّل في ربع الساعة الأخير من الاجتماع على تجميد المادة 49، وحرصاً على الإجماع الذي يدفع اليه رئيس المجلس ومجموعة كبيرة من اعضائه، فقد تحقق الإجماع على الخطوة باغتيال «حصان الموازنة». وتراجع البعض عن تحفظات محدودة كانت لديهم، وسمّي المقرر ليضع تقريره في مهلة الأيام العشرة المقبلة وبوشِر البحث في الموعد المقبل، فاقترح أحدهم الثالث من ايار موعداً للبحث في التقرير، ولما كان اليوم عشيّة فتح صناديق الإقتراع تمّ التفاهم على موعد الثامن من الشهر عينه.

وعليه، يتطلّع المراقبون من الآن الى ذلك الموعد لعلّ الإجتماع المرتقب للمجلس سيشهد على مناقشة التقرير المرفوع أمامهم والبَت به. وخصوصاً إذا جاء القرار «مُبكلاً» مدعماً بكل شروط الإنتقال من مرحلة الإقتراح الى مرحلة القرار، فتطوى الصفحة نهائياً وبالسرعة القصوى التي تستدعي تفرّغ أعضاء المجلس بعدها للطعون النيابية المتوقعة بالعشرات، نتيجة لِما في قانون الانتخاب الجديد من ثغرات ولِما يَشوب الإنتخابات من مخالفات مادية وسياسية واستغلال نفوذ وخروج على المألوف، بعدما تمّ توثيق مئات المخالفات لدى هيئة الإشراف على الإنتخابات وماكينات حزبية متضررة منذ الآن.