في كلّ مرّة أزور فيها الجنوب، تكون مارون الرأس مركز الجولة. من الحديقة ـــ المقهى، التي أقامتها إيران بعد حرب 2006، تحية للمقاتلين والشهداء، والتي تحوّلت إلى استثمار مالي مُثمر على الطريقة الإيرانية، أطلّ فيها على أرض فلسطين المحتلة، التي تنتشر فيها المزارع بكثافة المباني والفِلل المنتشرة في جنوب لبنان. مجموعة كبيرة من الشباب والشابّات الفلسطينيين تجمّعوا ليطلّوا على فلسطينهم، وكأنّهم في زيارة دينية.

أحد الشباب قال لي بثقة: سنعود إلى فلسطين قريباً جداً.

أعجبتني ثقته المفرطة. فلم أتدخل خصوصاً أن أحد الشباب كان ينقل بمذياعه أخبار المواجهات وسقوط المئات من الشباب بين شهيد وجريح. كان لا بدَّ أن أتفاءل معهم وبهم، لأنهم لو كانوا على أرض غزّة لما تردّدوا كما هو واضح في السير «خفافاً» في الأرض المكشوفة، في وقت تقصفهم طائرات بلا طيار بقنابل الغاز، ما يسهل عمل القناصة الإسرائيليين المختارين بدقة للقتل من دون تردد ولا رحمة.

.. في طريقي عبر الجنوب إلى بيروت، كان كل شيء هادئاً. استذكرت عبر مفاعيل إعادة البناء المنتشرة، صور الدمار والركام الذي عاينته في نهاية حرب 2006. كل ما تمنّيته أن لا تتكرر تلك الحالات إلا في حالة واحدة، المقاومة ضد اعتداء للعدو الإسرائيلي، وليس لأن المرشد الإيراني آية الله خامنئي هو الذي أمر بالحرب لتغطية أزماته الداخلية وعجزه الكبير في تنفيذ «وعوده بتدمير إسرائيل».

«يوم الأرض»، دخل من غزّة تاريخ المقاومة. أكد الشباب الفلسطيني أنهم قادرون بصدورهم العارية على رسم مقاومة لم يعرفها العالم. حتى الآن تُحكى حكايات تقدّم الهنود بتوجيه من المهاتما غاندي، نصف عراة لمواجهة الجنود الإنكليز ليسقطوا الواحد بعد الآخر، مضرّجين بدمائهم، بعد ضربهم بالعصي على رؤوسهم، تلك الحادثة – المقاومة رسمت بداية مسار الاستقلال.

في غزة تقدم عشرات الألوف، فوق أرض مكشوفة وتحت طيران كثيف، وقناصة مجرمين ليؤكدوا شهيداً بعد شهيد وجريحاً بعد جريح، «أن الأرض أرضهم». في الوقت نفسه وعلى بُعد مئات وآلاف الكيلومترات، كان العرب في أعمالهم، غارقين في صمت مُطبق، لكن بعضهم كان يحتمي من خزانات المتفجرات المتساقطة من الطائرات التي دفعوا ثمنها لمحاربة إسرائيل، حتى الخطب اختفت خصوصاً الرسمية منها.

طهران التي استيقظت من «كوما عيد النوروز»، تناست أو تجاهلت ما يجري في غزّة، ربما أفضل ما حدث صمت جنرالات «الحرس الثوري»، عن «إزالة إسرائيل» في ساعات وفي أفضل لحظات التواضع في أيام. ولا شك أن استيقاظ «الظريف» محمد جواد ظريف على وجوب «إعادة هندسة المنطقة على وقع الاختلاف في وجهات النظر وضمان المصالح المشتركة» من دون الحديث عن غزة وما يجري فيها، محاولة ديبلوماسية لذرّ الرماد في العيون لإخفاء «العجز الثوري».

مشكلة «النظام الخامنئي»، أنّه يعيش أزمة وجودية. أحياناً يعمل على التغطية «بعواصف رملية» من التصريحات الثورية، يدور معظمها حول تدمير إسرائيل، وأحياناً يغرق في الصمت لتغطية عجزه عن المواجهة.

لكن في الواقع، مشكلة النظام الخامنئي، أنّ الأزمات التي يعاني منها تقرّبه أكثر فأكثر للالتصاق بحالة انهيار الاتحاد السوفياتي، إلى درجة تجعل من تكرار التاريخ رغم اختلاف النظام والأرض والأشخاص، أعجوبة غريبة.

أحمدي نجاد الذي زوّر المرشد الانتخابات لإنجاحه حذّر من «عواقب نشر الظلم».. وأشار إلى أن «مصيرنا سيكون الخراب». طبعاً لا يجب الأخذ كثيراً بكلام نجاد «المطرود من هيكل النظام»، لكن من الواضح أن ما يجري في «كرملين النظام» يشبه كثيراً ما كان يجري في «كرملين» موسكو قبل تسلّم يوري أندربوف الزعامة لأشهر قليلة.

طهران تعاني من الانقسامات داخل القيادة على وقع خلافة المرشد، تماماً كما كان يحصل في الكرملين على وقع خلافة ليونيد بريجنيف. وإذا كان النظام الشيوعي حينها قادراً على إخفاء قلقه من نتائج «الحرب الباردة» فإن طهران لم تعد قادرة على إخفاء قلقها من المواجهة حتى ولو بقيت سياسية مع واشنطن. ولا شك أن الانقسامات ساهمت في كشف هذا القلق. فالأميرال علي شمخاني رئيس «مجلس الأمن القومي» تلقى «تأنيباً» علنياً من الرئيس روحاني. الذي بعد أن هاجمه شمخاني لأنه «لم يلغِ الاتفاق النووي»، قال: «ماذا تتوقع من أمين المجلس حينما يرتدي زي الشرطة (الأميرال) خلال لقائه مع وزير خارجية فرنسا».

وكأن الخلافات داخل «كرملين طهران»، لا تكفي لإحداث مزيد من الشروخ، فإن الأزمة الاقتصادية تتعمّق تماماً كما حدث في الاتحاد السوفياتي، وكأنه لا يكفي انهيار التومان (5200 تومان للدولار) فإن تعمق الجفاف وتصحر الأراضي الزراعية نتيجة لتنفيذ مشاريع مائية أساءت أكثر مما أفادت، يحدثان هجرة واسعة للمزارعين إلى المدن. ويرى العديد من الخبراء أن 96 بالمئة من الأراضي الزراعية تعاني بدرجات متفاوتة من الجفاف. ولا شك أن الكشف الرسمي عن انخفاض منسوب «بحيرة أرومية» بعد أن حجبت السدود التي بُنيت من دون دراسات معمّقة وحقيقية المياه عنها، رغم أنها أكبر بحيرة في إيران وثاني أكبر بحيرة مالحة في العالم، يؤكد عمق الأزمة الحالية والقادمة.

في 12 أيار تنتهي المزايدات «الترامبية» والإيرانية وسيكون ما بعده غير ما قبله..