في صباح اليوم التالي لدفن عبدالفتاح عبدالنبي، البالغ من العمر 19 عاماً، اجتمعت أسرته داخل سرادق أُقيم لاستقبال المشيِّعين، وشاهدت مراراً مقطعاً مصوراً للحظة قيام الجنود الإسرائيليين بإطلاق النار على مؤخرة رأسه.
 

ويُظهِر الفيديو الفتى وهو يرتدي ملابسه السوداء، ويفرُّ بعيداً عن السياج الحدودي الذي يفصل غزة عن إسرائيل، وهو يحمل إطارَ سيارة. وقبيل وصوله إلى الحشود، خرَّ صريعاً. وتساءل شقيقه محمد عبدالنبي، البالغ من العمر 22 عاماً “لم يكن يحمل بندقيةً أو قنبلة مولوتوف، إنه كان يحمل إطار سيارة، فهل يضر ذلك الإطار الإسرائيليين؟ لم يكن يتجه نحو الجانب الإسرائيلي، بل كان يفرُّ بعيداً عنه”، بحسب تقرير لصحيفة Washington Post الأميركية. كان الفتى واحداً من بين 15 ضحية قتلتهم إسرائيل في قطاع غزة، يوم الجمعة، أثناء ما سمَّته الفصائل الفلسطينية “مسيرة العودة” السلمية، لإحياء الذكرى السنوية ليوم الأرض، الذي صادرت إسرائيل خلاله الأراضي المملوكة للعرب عام 1976. ومع ذلك، فقد انتهى اليوم نهاية أكثر دموية في المنطقة، التي تبلغ مساحتها 140 ميلاً مربعاً منذ حرب عام 2014 بين إسرائيل وحماس، التي تسيطر على قطاع غزة. وأشاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالجيش الإسرائيلي لحماية الحدود. وقال في بيانٍ له صدَرَ يوم السبت “سوف تتخذ إسرائيل موقفاً حازماً وحاسماً لحماية سيادتها وأمن مواطنيها”. وحذَّر الجيش الإسرائيلي من توسيع نطاق ردِّه إذا ما استمرَّت أعمال العنف. وتعهَّدت حماس وغيرها من الفصائل في غزة بمواصلة المظاهرات، ما يثير مخاوف من اندلاع المزيد من المصادمات، بحسب الصحيفة الأميركية. وتعد أسرة عبدالفتاح من بين الأسر التي تطالب بفتح تحقيق في ردِّ فعلِ إسرائيل على الاحتجاجات، وذكرت أن مقطع الفيديو يُبيِّن أنه لم يشكل أي تهديد. وقد أصيب أكثر من 700 شخص بالذخيرة الحية خلال المظاهرات، وفقاً لما أوردته وزارة الصحة الفلسطينية في غزة. وذكرت الوزارة أن 49 شخصاً قد أصيبوا خلال مواجهات السبت، بحسب الصحيفة الأميركية.
الأمم المتحدة قلقة من الواقعة
وذكرت الأمم المتحدة، السبت، أنها “تشعر بالقلق الشديد”، وطالبت بفتح تحقيق نزيه ومستقل. وكتبت جماعة أدالا الحقوقية الإسرائيلية، ومركز الميزان ومقره قطاع غزة، إلى المدعي العام الإسرائيلي أفيخاي مندلبليت للمطالبة بالمساءلة. وذكرا في الخطاب أن استخدام الذخيرة الحية ضد المدنيين يعد “انتهاكاً صارخاً للقوانين الدولية”. وذكرت إسرائيل أنها تلتزم التزاماً صارماً بقواعد الاشتباك، للتعامل مع حشد قوامه 30 ألف شخص على الحدود، وقالت إن “القائمين بأعمال الشغب” ألقوا قنابل المولوتوف والحجارة والإطارات المشتعلة، وحاولوا اختراق السياج. ولم ترد إسرائيل على الفور، يوم السبت، على المطالبات بتوضيح قواعد الاشتباك التي تم اتّباعها. وفي الأيام التي سبقت اندلاع المظاهرات، أسقط الجيش منشورات تحذر أهالي غزة بالبقاء على مسافة 300 متر من السياج الحدودي، أو التعرض للقصف. واتهمت إسرائيل حماس باستخدام غطاء المظاهرات السلمية لتنفيذ الاعتداءات. وذكرت حماس أن 5 من بين القتلى كانوا أعضاءً بالجناح العسكري، وأصدرت أسماءهم وصورهم. وذكرت إسرائيل أن عدد القتلى من حماس قد بلغ ثمانية، ومن بينهم فتى يبلغ من العمر 20 عاماً. وذكرت أيضاً أن اثنين آخرين من القتلى كانا أعضاءً بحماس، بحسب الصحيفة الأميركية.  وذكرت أسرة عبدالفتاح أنه كان يعمل في مطعم شقيقه لبيع الفلافل خلال أيام الأسبوع، وفي أحد المطابخ أيام الجمعة. وقالوا إنه لا ينتمي إلى أي فصيل مسلح. وعلى النقيض من السرادق الجنائزية التي تُقام في هذه الحالات، لم يكن هناك ما يشير إلى انتماء عبدالفتاح إلى أي جماعة. وأظهرت الملصقات التي تحمل صُوره بسرادق الجنازة، أنه كان يرتدي ربطة عنق سوداء، بدلاً من الزي العسكري الذي يرتديه المقاتلون. ولم تبذل أسرته جهداً لإخفاء حقيقة أن عبدالفتاح قد شارك في المظاهرات، وألقى الحجارة. وقالوا، هذا ليس سبباً يجعله يتعرض للقتل. وقال شقيقه علاء عبدالنبي، البالغ من العمر 28 عاماً: “كانوا يلقون الحجارة، ولكنها لم تصل مطلقاً إلى السياج. إنها مجرد رسالة أن نلقي حجراً من أرضنا”، بحسب الصحيفة الأميركية. وذكر العديد من المتظاهرين أنهم كانوا يتظاهرون بصورة سلمية. وقالت أسرة بدر صباغ، البالغ من العمر 20 عاماً، إنه كان قد وصل لتوه لمشاهدة المظاهرات حينما لقي مصرعه. ورفضت الأسرة تأكيدات الجيش الإسرائيلي بشأن مشاركة كل من لقوا مصرعهم في أعمال العنف. وقال شقيقه محمد صباغ، البالغ من العمر 29 عاماً “طلب سيجارة وأعطيته إياها، ودخَّن جزءاً منها، ثم أصيب بطلق في رأسه. لم يمكث هناك سوى 10 دقائق”. وقال والده فايق صباغ، البالغ من العمر 64 عاماً: “صحبت أحفادي وذهبنا للمشاركة في المظاهرة السلمية. ذهبنا لنخبرهم أنها أرضنا، ولكن ما وجدناه كان مختلفاً”. ورداً على مقطع فيديو مقتل عبدالفتاح، حذَّر الجيش الإسرائيلي من أن حركة حماس قد نشرت العديد من المقاطع المصورة لأحداث الجمعة “التي يصف بعضها أجزاءً من الأحداث فقط، بينما تم تعديل مقاطع أخرى أو تلفيقها بالكامل”.


كان يفر بعيداً عن السياج

 

وأوضح مقطعان مصوَّران آخران، انتشرا عبر شبكة الإنترنت، عملية القتل من زوايا مختلفة، بينما ذكر الشهود أن عبدالفتاح كان يفر بعيداً عن السياج. وكان المصور الفلسطيني محمود أبو سلامة يلتقط صوراً في ذلك الوقت، وجسَّد اللحظات الأخيرة في حياة عبدالفتاح. وقال إن شخصاً قد شوهد يرتدي قميصاً أخضر اللون بالفيديو، كان يتسلل نحو السياج الحدودي لاستعادة إطار سيارة كان قد تُرك هناك منذ الصباح الباكر. وقد شوهد بالفيديو يزحف على بطنه نحو الإطار، ثم يمسك بالإطار ويفرُّ عائداً نحو الحشود، بينما كانت الرصاصات تنهمر حول قدميه. وحينما تعثر، سارع عبدالفتاح لمساعدته وإحضار الإطار، كما تقول الصحيفة الأميركية. وقال سلامة، إن عبدالفتاح قد أصيب من الخلف، على بُعد مئات الأمتار من السياج. وقال علاء: “لقد قُتل بدم بارد، وسوف نبلغ الأمم المتحدة عن ذلك. نريد أن نعرف من شارك في قتله، فهو لم يكن مسلحاً”. ومع ذلك، فقد كان يأمل أن تتم محاسبة أحد، وهي المشاعر التي عبرت عنها جماعة بتسيلم الحقوقية الإسرائيلية. وذكر أميت جيلوتز، المتحدث باسم الجماعة الحقوقية “تلك هي النتائج المتوقعة للأوامر غير القانونية: الجنود الإسرائيليون يطلقون الذخيرة الحية على المتظاهرين الفلسطينيين العزل. وما هو متوقع أيضاً هو عدم محاسبة أحد، من القناصة على الأرض، إلى المسؤولين الذي أدَّت سياساتهم إلى تحويل غزة إلى سجن عملاق”، بحسب الصحيفة الأميركية. ولم يغادر عبدالفتاح، على غرار أغلبية أهالي غزة من جيله، قطاع غزة مطلقاً. فقد فرضت إسرائيل قيوداً مشدَّدة على انتقال السلع والأشخاص، منذ أن سيطرت حماس على القطاع عام 2007. ومع ذلك، فقد حذَّرت الأمم المتحدة على مدار العام الماضي من سرعة تدهور الوضع الإنساني في غزة، مضيفةً أن الاقتصاد والخدمات توشك على الانهيار. ويُقدَّر معدل البطالة بنحو 5%. وتُلقي إسرائيل اللومَ على حركة حماس فيما يتعلق بتدهور الوضع الإنساني، وتذكر أن الحركة تستغل الأموال التي ينبغي أن تنفقها لصالح المواطنين المدنيين في الأنشطة العسكرية الشائنة.