وصلتني صورة مع جملة تقول إن "عباس عقيل طريح المستشفى منذ 16 سنة". للوهلة الأولى اعتقدتُ أن في الخبر مبالغة ما، كيف يمكن لطفل ان يبقى أسير الفراش نفسه لـ16 عاماً داخل المستشفى. أسئلة كثيرة بدأت تدور في رأسي، كيف يمكن لصبي ان يعيش في غرفة المستشفى طوال هذه السنين؟ لم أشأ ان أصدق، بدأت أبحث وأتحرى عن تلك الصورة ومدى صحتها. خيوط كثيرة بدأت تتكشف، لم يكن الخبر كذبة بل واقع موجود في احد المستشفيات اللبنانية. كان يصعب علي تصديق ذلك، من طفل عمره 9 أشهر الى شاب عمره 16 سنة، لا يعرف عباس سوى غرفة المستشفى التي رافقته منذ صغره، مُعلقاً بالأجهزة الطبية التي تجعله على قيد الحياة. سريره الشاهد الوحيد على كل هذه السنين والساعات والدقائق، هو وحده يعرف ثقل الوقت الرهيب والمشاعر والأسرار غير المفضوحة. سريري بات قطعة من جسدي، بات هو جسدي، معلقاً بي منذ 16 عاماً.

من اتصال سريع الى زيارة شخصية لعباس، وفي تلك الغرفة كان لقائي به. دخلتُ بخطى مترددة وبطيئة، لا أعرف ما ينتظرني أو كيف سأتفاعل مع شخص عانى ما عاناه. هكذا التقيتُ بعباس المبتسم رغم درب جلجلته الطويلة وعرفتُ ان الشخص الذي امامي حالة استثنائية تجعلك تنحني امامها. تتساءلون أين يسكن؟؟ يسكن في غرفة صغيرة ذات لون أزرق في مستشفى بخعازي، وإلى جانبه رئتان فولاذيتان لا يستطيع العيش من دونهما.

جراحة قلبت حياتنا 

يبادلني بعض الأحاديث، مهتمٌ بالسياسة بدرجة كبيرة، ومولع بمتابعة الأخبار العاجلة ولديه حب للاطلاع ومعرفة العالم الخارجي. يبحث عن اي وسيلة تجعله مرتبطاً بهذا العالم الغريب عنه، الذي لم يشاهده سوى على شاشة التلفاز. لا يعرف عباس ما هو البحر او كيف هي الشمس او الأشجار او اي شيء خارج هذه الغرفة البيضاء. الساعات الطويلة والروتين اليومي لم تكسر رتابتهما سوى "مسنجر" في فايسبوك، متمسك به الى حدّ الجنون، ربما لأنها الطريقة الوحيدة التي تجعله يتفاعل مع الآخر. يتحمس، يضحك وينفعل، ردات فعل متنوعة، هكذا يهرب من واقعه الممل الى عالم اكثر انفتاحاً وحركة.

ترى عباس ممداً على الفراش، عاجزاً عن الحراك. هو قادر على الكلام والاستماع والنظر فقط بسبب شلل كلي. لكن ما الذي جعل عباس يصبح على هذه الحالة؟ تفاصيل تلك المرحلة القاسية تعيشها مجدداً مع والده عند الاستماع الى قصة عباس.

يستهل احمد والد عباس شريط حياة عباس بالقول "بدأ كل شيء عندما كان عباس طفلاً يبلغ 9 اشهر، هو شق توأم مع شقيقته جنى. وُلد عباس وهو يعاني من مشكلة في الصابونة المنفصلة قليلاً عن ساقه. قيل لنا بضرورة اجراء جراحة قبل عمر السنة حتى لا تُشكل عائقاً امام المشي. وهكذا كان، توجهنا الى احد المستشفيات وكان عباس يضحك بين يدي. كان كل شيء طبيعياً الى ان خضع عباس لعملية بسيطة لا تستوجب حتى النوم في المستشفى. بعد خروجه من غرفة العمليات، كان عباس يبكي كثيراً، سألتُ عن سبب ذلك لكنهم قالوا لي لا داعي للخوف سيرتاح بعد قليل".

سُرقت احلامنا فجأة

هكذا خرج عباس من المستشفى الى المنزل، لكن الصدمة كانت ان عباس لا يتحرك وجسمه ازرق. لم نصدق ما رأيناه، وتوجهنا به الى اقرب مستشفى حيث وضع على أجهزة التنفس. لم نفهم ما حصل، ولماذا هو على هذه الحالة؟ استُدعي نقله الى مستشفى الجامعة الأميركية بعد تعذر وجود رنين مغناطيسي موصول الى جهاز التنفس، وهناك سُرقت كل أحلامنا بحقيقة طبية لم نتوقع سماعها قط.

ويؤكد أحمد ان "ما جرى مع عباس كان نتيجة خطأ طبي، إذ تعرض عباس الى كسر في رقبته أدى به الى شلل كلي. دخل عباس الى مستشفى الجامعة الأميركية في 5/9/2002 وأكد لنا الأطباء هناك ان عباس سيخرج من العناية بعد فترة ويعود الى المنزل، لكن عباس لم ينجح في التنفس بمفرده برغم كل الجهود والجلسات. هكذا وجد عباس نفسه فجأة موصولاً بأجهزة التنفس الذي يصعب عليه العيش بدونها، كانت موضوعة في فمه قبل ان يخضع بعد شهرين من وقوع الحادثة الى جراحة لوضع جهاز التنفس في رقبته. يأكل من خلال جهاز موصول بأنفه، طعامه كناية عن سائل شبيه بالحليب غني بالألياف والمعادن".

16 سنة على فراش المستشفى 

15 سنة مرّت وعباس بقي على حاله. 131500 ساعة أمضاها على سريره داخل المستشفى يواجه الآلم ويحلم بغد لا ألم فيه ولا وجع. لا يمكن نقل عباس الى المنزل إذ ثمة أسباب طبية ومادية تحول دون ذلك، هو اليوم انتقل الى مستشفى بخعازي بعدما امضى 15 سنة في الأميركية. "كانت لحظات صعبة" بحسب والده "لم يكن سهلاً ان يترك غرفته التي كبر فيها وشهدت كل مراحل حياته. لم يكن يعرف شيئاً عن هذا العالم الخارجي، تعرّف اليه للمرة الاولى لـ20 ثانية فقط كانت بمثابة لحظات مفصلية من خلال الانتقال من طوارىء المستشفى الى سيارة الإسعاف. كانت المرة الاولى التي يُشاهد فيها الشمس، لقد ظنها لمبة كبيرة والسماء شرشف أزرق كبير وظن ان الغيوم ستقع عليه. أسئلة كثيرة بثوانٍ قليلة الى ان وصل الى غرفته الجديدة، لكن سريره وشراشفه آبت ان تفارقه فرافقته الى هناك لإستكمال المصير نفسه".

 يتأرجح عباس بين الصعود والنزول، يعيش خيباته كما لحظاته السعيدة. يُخفي حزنه بضحكته البريئة لكنه متعب، متعبٌ من هذا السرير الملتصق بجسده العاجز عن الحراك. يُعبّر احياناً عن حزنه، عن ألم ، يسأل عن احتمال شفائه من كل هذا. لا يتظاهر بالقوة دائماً، هو واقعي لأقسى الحدود، ويعرف وضعه الطبي بكل تفاصيله وبرغم ذلك يبقى متمسكاً بالأمل...امل الشفاء. يقول والده احمد: "ان اللحظات الصعبة بالنسبة الى عباس تكون لحظة عودتنا الى المنزل بعد زيارته، يُحب ان يعود معنا الى منزله الذي لا يعرفه. يسأل عن اليوم الذي سيُشفى به؟ لماذا قدماه على هذه الحالة؟ لماذا علي ان ابقى على هذا السرير"؟

بين الخيبة والفرح 

لحظات الحزن والخيبة والضعف يُقابلها لحظات فرح وحماس وامل، مراحل طبيعية يعيش على وقعها عباس ككل انسان. وحده الفايسبوك و"المسنجر" استطاعا ان يرسما الضحكة على وجهه، ربما لأنهما سمحا له ان يتفاعل مع الآخرين وان يرى العالم الخارجي من خلال هذه الشاشة الصغيرة وحب الناس. كلمات مؤثرة يتمسك بها، كثيرون أثنوا على قوته وصموده وشجاعته، كثيرون تعلموا من قصته وكثيرون أنقذهم عباس من دون ان يدري. نجح عباس في تغيير حياة كثيرين، أعطاهم الأمل والإيمان والقوة، كان مثالاً للصبر والحياة وبفضله ناضل كثيرون في محنتهم المرضية وظروفهم الصعبة.

لا يُخفي احمد الصعوبات والمخاوف التي تقضّ مضجعه، يخاف من المستقبل ومآل الأيام. ولكنه متكل على الله، حلمه الوحيد كما رواه لنا "ان يرى عباس العالم الخارجي، لذلك يسعى الطبيب المشرف على عباس د. ايهاب الجيزي إلى البحث في امكان تأمين سيارة اسعاف مجهزة حتى يتمكن عباس من الخروج مرة كل شهرين من المستشفى لرؤية الأرض والحياة خارج هذه الغرفة. كما نحلم في تركيب جهاز يضعه على عينيه يُمكنه من تحريك الأجهزة الإلكترونية والتصرف بنفسه من خلال النظر. امور بسيطة لكنها قادرة على مساعدة عباس وتسهيل حياته".

نجح عباس في ان يترك بصمته في حياة كثيرين، هي قصة بطل ما زال يحارب حتى النهاية، قصة نضال لا تنتهي وأمل لا ينضب. انه عباس الذي لا يزال طريح فراشه يحلم بغدٍ افضل وبعالم خارجي يرسم تفاصيله في مخيلته الى حين رؤيته واقعاً.