لم تعد تجارة الأعضاء البشرية تقتصر على صفقات سرية صغيرة تجري في مناطق نائية من دول العالم الفقير، فقد تحولت إلى إمبراطورية عملاقة، تديرها شبكات من المافيات الإجرامية، تضم بصفوفها أطباء وأساتذة جامعات وحتى سياسيين وعسكريين في حكومات دول متقدمة، لتخرج من نطاقها المحدود إلى العالمية. وتجري سنوياً عشرات الآلاف من عمليات بيع الأعضاء البشرية في السوق السوداء بصورة غير شرعية، لتدرَّ على سماسرة هذه التجارة أرباحاً سنوية تصل إلى 8 مليارات دولار، لا ينال أصحاب الأعضاء المبيعة منها سوى الفتات، فغالبيتهم من الفقراء والنساء والأطفال، الذين يتم الاحتيال عليهم أو استغلال ظروفهم المادية.

طرق الحصول على الأعضاء
وتصنف الأمم المتحدة الاتجار بالأعضاء البشرية على أنه “جريمة”، وقد أصدرت اللجنة الأممية لمنع الجريمة والعدالة الجنائية، في مايو 2014، قراراً يمنع ويوصي بمكافحة الاتجار بالأعضاء وبالبشر. وتتعدد طرق الحصول على الأعضاء البشرية التي يتم الاتجار بها.
وبحسب تصنيفات الأمم المتحدة، يتم توفير الأعضاء بثلاث طرق، أولاها إجبار التجارُ، الضحايا أو خداعهم من أجل التخلي عن أحد الأعضاء.
والطريقة الثانية تتمثل في الاتفاق مع الضحايا، بشكل رسمي أو غير رسمي، على بيع عضو معين ويتم خداعهم ولا يدفعون لهم ثمن العضو، أو يدفعون مبالغ زهيدة تكون أقل بكثير من السعر المتفق عليه مسبقاً.
والحالة الثالثة تحصل من خلال ادِّعاء علاج الأشخاص الضعفاء (الفقراء أو المهاجرين أو المشرَّدين أو الأشخاص الأميين)؛ بسبب مرض قد يكون موجوداً أو غير موجود، وتتم إزالة الأعضاء من دون معرفة الضحية.
وفي حالات أخرى لم تدرجها الأمم المتحدة في تصنيفاتها، تجند منظمات إرهابية، مثل داعش، أطباء في مناطق الصراع التي يعملون فيها؛ لاستئصال الأعضاء الداخلية من جثث القتلى أو المصابين، أو حتى الأفراد الأحياء الذين يتم اختطافهم. كما يحصل تجار الأعضاء على سلعهم من خلال تشكيل عصابات تختطف الأطفال وتقتلهم قبل سرقة أعضائهم، وكثيراً ما تم العثور على جثث لأطفال، بعد فترة من اختفائهم، وهي منزوعة القلب والكبد والكلى والطحال. وأخيراً، يحصل البعض على الأعضاء البشرية من خلال تزويج فتيات فقيرات بأثرياء بشكل رسمي، ليتم الطلاق بعد الاحتيال عليهن والحصول على أعضائهن.
ولم تستطع الدول محاربة الاتجار بالأعضاء البشرية إلا بشكل محدود؛ فأنشطة هذه التجارة تتم بسرية مطلقة. وعن ذلك، قال تقرير قدَّمه الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بان كي مون، في 2004، إن الدول الأعضاء بالمنظمة الدولية، لا تقدم معلومات كافية بشأن قضية الاتجار بالبشر، ما يجعل هذه التجارة غير مستكشَفة إلى حد بعيد.

ظاهرة عالمية
ولكن، ما المؤشرات التي تثبت انتشار هذه الظاهرة للدرجة التي تدفع الأمم المتحدة ومنظمات عالمية لتجريمها والعمل على مكافحتها؟
يمكن معرفة ذلك من خلال الأرقام التي نشرتها منظمات دولية مختصة، فبحسب بيانات منظمة الصحة العالمية، فإنه يتم بيع جهاز بشري في كل ساعة. وتصف منظمة الصحة سوق أعضاء وأنسجة البشر بأنها “لا تَشبع”، حيث تم الحصول على 11 ألف عضو بشري من السوق السوداء في عام 2010، وهناك طلب متزايد على الأجهزة البشرية كل يوم.
وبحسب مؤسسة “Donate Life America” (تبرَّعْ لحياة أميركا)، فإنه تتم إضافة شخص جديد إلى قائمة انتظار زرع الأعضاء البشرية في الولايات المتحدة كل 10 دقائق، ويموت نحو 8000 شخص بالبلاد في كل عام (بمعدل 22 شخصاً يومياً)؛ لأن الأجهزة البشرية التي يحتاجون إليها لا يتم التبرع بها في الوقت المناسب.
وفي الصين أيضاً، لا يتوافر إلا عدد قليل جداً فقط من الأشخاص المستعدين للتبرع بأعضائهم، رغم الطلب الهائل على هذه الأعضاء.
ووفقاً لصحيفة “الديلي ميل” البريطانية، فإنه تتم زراعة نحو 10 آلاف عضو في الصين سنوياً، يتم الحصول على جزء كبير منها من السوق غير الشرعية.
وفي السياق نفسه، تشير تقديرات “الصحة العالمية” إلى أنه يتم الاتجار بـ70 ألف كلية في كل عام على مستوى العالم.
وفي تقديرات أخرى خرجت بها دراسة عن تجارة الأعضاء، أجراها مركز “المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة” (مقره بالإمارات)، ونُشرت في كانون الأول 2016، تبيَّن أن أكثر من 10 آلاف عملية بيع وشراء للأجهزة البشرية تجري في السوق السوداء سنوياً.
وكشفت الدراسة ذاتها -التي تعد الأحدث بين مثيلاتها- أن تجار الأعضاء البشرية يحققون أرباحاً تصل إلى 8 مليارات دولار سنوياً.

إسرائيل عاصمة تجارة الأعضاء
وإن كان لإمبراطورية تجارة الأعضاء غير الشرعية في العالم عاصمة فهي إسرائيل، كما تحدثت العشرات من الدراسات والتقارير الحقوقية والإعلامية الدولية. فبحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية الـ(بي بي سي)، فإن إسرائيل تشترك في تجارة الأعضاء بصفتها المشتري الأكثر استهلاكاً. وأشار التقرير إلى أن هناك خطوط إنتاج للكلى فتحتها إسرائيل في ملودوفا (شرقي أوروبا)، حيث يعيش معظم الرجال هناك بكلية واحدة، فدخلهم محدود للغاية، ومعظم سكان البلاد يعيشون على أقل من دولارين يومياً. ووفقاً للـ”بي بي سي” أيضاً، فإن إسرائيل بها أقل عدد متبرعين في العالم، ويرجع ذلك إلى معتقد يهودي يرى أن التبرع بالأعضاء فيه “تدنيس للجسد البشري”. ولعل أهم ما يثبت علاقة إسرائيل بعمليات وشبكات الاتجار وسرقة الأعضاء، سلسلة من الأحداث التي وقعت في السنوات الأخيرة والتي يمكن رصدها فيما يلي:

– في عام 1998، تُوفّي أسكتلندي في ظروف غامضة بمطار بن غوريون الإسرائيلي، وعند تشريح جثته اكتُشف أن القلب وعظام الرقبة مفقودة؛ ما دفع السفارة البريطانية في تل أبيب لتقديم شكوى ضد إسرائيل.

– في عام 2004، تمّ تفكيك شبكة الاتجار بالأعضاء الدولية، والتي لها فروع في إسرائيل وفي ريسيفي بالبرازيل. ومرة أخرى، فقد ضمت لائحة الاتهام اثنين من المواطنين الإسرائيليين، بينهم ضابط متقاعد في الجيش.

– عام 2009، فكَّك مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، في عملية ضخمة، شبكة واسعة للاتجار بالأعضاء، كانت تدار في إسرائيل، وتمّ فيها إلقاء القبض على خمسة حاخامات يهود.

– في 2010، كشفت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية أنه قد تم اعتقال ستة إسرائيليين بتهمة الاتجار بالأعضاء البشرية، من بينهم لواء في قوات الاحتياط بالجيش الإسرائيلي واثنين من المحامين.

– في عام 2013، أُلقي القبض على ضابط إسرائيلي سابق في العاصمة الإيطالية روما، حيث كان مسؤولاً عن شبكة اتجار بالأعضاء، كانت تضم مجموعة مستشفيات خاصة في جنوب أفريقيا.

– عام 2015، أُلقي القبض في بلجيكا على الإسرائيلي جيداليا توبر، زعيم شبكة كبيرة للاتجار بالأعضاء، كان معظم نشاطه في البرازيل.

– في كانون الثاني 2018، أعلنت شرطة كوسوفو أن إسرائيلياً، يُشتبه في أنه العقل المدبر لشبكة دولية لتهريب الأعضاء، وُقِّف في قبرص بناءً على مذكرة توقيف دولية.

وذكرت الصحف المحلية في كوسوفو أن الرجل هو موشيه هاريل، وتبحث عنه كوسوفو منذ 2010، وهو متهم مع ستة إسرائيليين آخرين بالانتماء إلى شبكة دولية لتهريب الأعضاء من كوسوفو إلى أذربيجان وسريلانكا وتركيا.

وفي أحدث المعلومات عن واقع تجارة الأعضاء البشرية في “إسرائيل”، كشف تحقيق استقصائي، نشرته القناة الثانية الإسرائيلية، مؤخراً، عن شبكات مافيا كبيرة تعمل بتجارة الأعضاء البشرية في الدولة العبرية.

وتستغل هذه الشبكات حالة الفقر المدقع التي يعيش بها الضحايا، وغرقهم في الديون المتراكمة نتيجة زيادة متطلبات الحياة اليومية.

وكشفت القناة الإسرائيلية عن أن حجم الأموال التي يتم تدويرها سنوياً في مجال تجارة الأعضاء بـ”إسرائيل”، يبلغ نحو ربع مليار شيكل (71.4 مليون دولار)، ويتراوح سعر الكلية بين 700 ألف ومليون شيكل (200-286 ألف دولار)، تأخذ منها شبكة تجارة الأعضاء ما بين 350 و500 ألف شيكل (100 إلى 140 ألف دولار)، ويأخذ بائع الكلية ما بين 80 و120 ألف شيكل (22 و34 ألف دولار).
وبحسب التحقيق ذاته، فإنه يعمل في هذه التجارة نحو 280 إسرائيلياً في الداخل والخارج، بينهم أطباء ووسطاء. وتتم عمليات زراعة الأعضاء، التي يتم الاتجار بها في الدولة العبرية، بكل من إسرائيل، وتركيا، والفلبين، وبلغاريا، وتايلاند، والصين، وكولومبيا.
ووفق القناة الإسرائيلية، فإن أحد أشهر تجار الأعضاء بـ”إسرائيل”، ويدعى شالومي بيتون، اتُّهم بالاشتراك مع لواء كبير بالجيش الإسرائيلي، هو مائير زامير، قائد المركز الوطني للتدريبات البرية، في تشكيل شبكة للاتجار بالأعضاء البشرية، وكان يعمل معهم الطبيب ميخائيل زيس، الذي كان بمثابة حلقة الوصل بين التاجر “بيتون” والمستشفيات الأجنبية التي تقوم بعملية الزرع، وجنى من وراء ذلك أموالاً طائلة.

السوريون والفلسطينيون والأفارقة.. ضحايا

ولكن.. من أين يحصل التجار الإسرائيليون على الأعضاء؟
موقع “والا” العبري الإخباري، كان قد تحدث في تقرير له، مؤخراً، عن أنه يتم شراء أعضاء وأنسجة بشرية من سوريا، وتأتي غالباً من قتلى سقطوا في الحرب ومقاتلين أجانب يعملون في صفوف تنظيم داعش أو بصفوف فصائل المعارضة العسكرية.
ويذكر الموقع الإسرائيلي أن سعر القلب قد يصل إلى أكثر من 20 ألف دولار، والكلية إلى 15 ألف دولار، وقرنية العين بـ7 آلاف و500 دولار، في حين تصل أسعار أعضاء أخرى مختلفة إلى 10 آلاف دولار.
الأفارقة أيضاً، مصدر جيد للأعضاء التي يتم الاتجار بها في “إسرائيل”. ووفقاً لدراسة حديثة للتحالف الدولى لمكافحة تجارة الأعضاء (cofs)، فإن الضحايا الأفارقة (هم غالباً من إريتريا والسودان وجنوب السودان، ودول أخرى تعاني حروباً أهلية ومجاعات)، يضطرون إلى الهجرة من بلادهم، ليقعوا بقبضة تجار الأعضاء، وخاصة بـ”إسرائيل”.
وأظهرت الدراسة أن المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين تساعدهم عصابات على الوصول لحدود إسرائيل، وهناك تُسرق أعضاؤهم منهم وتُباع للتجار والشبكات المختصة بتل أبيب، وتُدفن بقايا جثثهم في أرض سيناء المصرية.
الفلسطينيون كذلك، يقعون ضحايا لعمليات سرقة الأعضاء بـ”إسرائيل”؛ ففي الثلاثين من ديسمبر عام 2002، قتل جنود الجيش الإسرائيلي ثلاثة أطفال، عادت جثامينهم إلى ذويهم بعد أيام، دون أعضائهم الحيوية.
وفي ذلك اليوم، رفع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات صور الأطفال الثلاثة، قائلاً: “قتلوا أولادنا، واستخدموا أعضاءهم أيضاً”.
وفي نهاية عام 2015، اتهم رئيس وفد السلطة الفلسطينية بالأمم المتحدة، رياض منصور، في رسالة بعث بها إلى مجلس الأمن الدولي، “إسرائيل” بسرقة أعضاء من أجساد شهداء فلسطينيين قتلهم الجيش الإسرائيلي.
وكتب منصور في رسالته، آنذاك، أنه “بعد إعادة الجثث المحتجَزة للفلسطينيين الذين قتلتهم قوات الاحتلال خلال تشرين الأول 2015، وفي أعقاب الفحص الطبي، تبيّن أن الجثث أُعيدت من دون القرنيات وأعضاء أخرى”.

حادثة جديدة أخرى، ربما تؤكد تورط “إسرائيل” في سرقة أعضاء شهداء فلسطينيين؛ ففي نيسان من عام 2017، أعلنت السلطات الإسرائيلية فقدانها 121 جثة من أصل 123 فلسطينياً، تحتجزهم منذ تسعينيات القرن الماضي.
وعقب هذه الحادثة، اتهمت مراكز وجمعيات حقوقية، من بينها مركز الدفاع عن الفرد (هموكيد) ومركز القدس لحقوق الإنسان، “إسرائيل” بالتعامل بإهمال ممنهج مع جثث الشهداء، بقصد إضاعتها للحؤول دون الكشف عن سرقة أعضاء الشهداء والمتاجرة بها.
كما قالت اللجنة الوطنية الفلسطينية لاستعادة جثث الشهداء، تعقيباً على فقدان الجثث، إن “إسرائيل” تتاجر بأعضاء الشهداء، بشكل يتناقض مع القانون الدولي ويرتقي إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.