اعتاد اللبنانيون أن يشهدوا في المواسم الانتخابية معارك دونكيشوتية, واشتباكات كلامية تتصاعد حماوتها مع اقتراب يوم الاستحقاق الانتخابي, ولكنها تبقى في كل الأحوال محصورة بالمرشحين المتنافسين, الذين قد يستخدمون أقصى العبارات ضد بعضهم بعضاً, ولكنهم يتسابقون على كسب ودّ الناخبين, بأحلى العبارات, وبشتى أساليب التودّد!
وغالباً ما كانت تسفر الانتخابات عن نتائج تُجسّد حالة التنوّع السياسي داخل الطائفة الواحدة, وفي المدينة الواحدة, حيث كان الرؤساء صائب سلام وعبد الله اليافي ورشيد الصلح يترشحون على لوائح متنافسة, وكذلك الحال في طرابلس حيث تعايش الرئيس الشهيد رشيد كرامي مع خصمه السياسي والانتخابي د. عبد المجيد الرافعي, سنوات طويلة في إطار حضاري, احترم حق الاختلاف, وتقبّل الآخر, والتسليم بوجود التعددية في النظام الانتخابي.
وساد مثل هذا الواقع لدى الزعامات المسيحية, التي حافظت على التعددية في المرجعيات السياسية, والتنوع بين الألوان الحزبية, ثلاثياً حيناً, كما حصل في انتخابات عام ١٩٦٩, حيث ربح الحلف الثلاثي الذي ضم كلاً من الزعماء: الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميّل والعميد ريمون إده, على فريق «النهج» الذي كان يمثل الرئيس فؤاد شهاب. واستمرت الحركة السياسية المسيحية في سنوات الحرب ثنائياً بقيادة شمعون والجميّل, رغم كل ما كان يحصل على الأرض من تصادمات وتصفيات بين ميليشيات الكتائب والأحرار.
أما الزعامة الشيعية فاختصرت تعدديتها بالثنائي الرئيس صبري حماده والرئيس كامل الأسعد, حيث تنافس الزعيمان على رئاسة مجلس النواب عقوداً من الزمن, رغم صلات النَسَب والقربى بينهما.
وتبقى مبادئ التعدّد السياسي والتنوّع الحزبي أساساً لا غنى عنه في الأنظمة الديموقراطية, المناقضة تماماً للأنظمة الأوتوقراطية, وذات الحزب الواحد, التي لا تعترف بالآخر, بل تحاول إخضاع الشعب والبلد لإرادتها, بشتى أساليب الترغيب والترهيب!
ولطالما كانت الانتخابات في لبنان بالأمس, كما اليوم, كما في كل دول العالم الديموقراطي, فرصة للتغيير, ولتأكيد التعددية السياسية, رغم كل ما يشوب القانون الحالي من تناقض وعيوب, إلا أن ممارسات أهل السلطة لا تدعو للارتياح في إدارة الاستحقاق الانتخابي, بما يُفترض من نزاهة وموضوعية!
الوقائع والشواهد على تعثر وتحيّز السلطة أكثر من أن تعد وتُحصى, تبدأ من وصف وزير الداخلية للناخبين البيارته المعارضين للائحته بـ «الأوباش», مروراً بإعلان الرئيس حسين الحسيني انسحابه من الانتخابات بعدما تبين له إنها مجرّد انتخابات في الظاهر فقط , أي أن المخفي أعظم, وصولاً إلى العودة لأساليب القرن الماضي في تمزيق صور الخصوم الانتخابيين, وترهيب مؤيديهم, وإلصاق شتى الاتهامات والنعوت بهم.
غاب عن أهل السلطة أن لبنان ليس متروكاً لقدَره مع هذه الطبقة السياسية العاجزة, وأنّ ثمّة متابعة عن قرب لمجريات التطورات الانتخابية وتجاوزات السلطة, من قبل المراجع الدولية المعنية بالوضع اللبناني, والتي تشجع على حماية النظام الديموقراطي في هذا البلد, والحفاظ على الأمن والاستقرار فيه لأسباب محلية وإقليمية لم تعد خافية على أحد!
والانتخابات لا معنى لها, ولا مبرّر, إذا فقدت نكهة التغيير, وتجاوزت أبسط المبادئ الديموقراطية في قبول التنوّع, والاعتراف بالآخر!