رسبَ السيد ألبار غواشي في السنة الثانية ستَّ مرَّاتٍ مُتعاقبة. أربى عمرُه على الخمسينَ ببضعة أعوامٍ، لم أستَطِع حصرَ عددها. وَجهه غليظٌ، يميل إلى السُّمرة. وعلى عكس أغلب الفرنسيين، مع أنه عَريقٌ فيهم، يَحمل شاربَيْن كثيفَيْن، يطغى عليهما البياض. يبدو وجهه مشحونًا، كتضاريس حَجَرية في قُرى السباسب. يجلس دائمًا في المقاعد الأولى من الفَصل، بَيْن طلاَّبٍ يَصغرونه بأكثر من ثلاثين سنة. يلوح بشكله المتقادم مثل نشاز في سنفونية. حصل جلُّ زملائه بالفصل على شهادة الباكالوريا مِن أشهُرٍ فقطٍ، ثم تَسجَّلوا في "معهد اللغات الشرقية" لتعلم الضاد، لسان أصدقائهم وأجدادهم من الضفة الأخرى، تلك التي يخافونها ويُحبونها.   
 
يتابع ألبار غواشي دروس اللغة باهتمام بالغٍ، ولا يتغيَّب إلا نادرًا. يُصغي إلى الشروح بنَهمٍ واضح، ولاسيما حين نَستطرد إلى مسائل الحضارة والتاريخ. ولكنه لا يشارك في الأنشطة الشفوية، بل يُطرِقُ هادئًا، يُصيخ إلى الكلمات بعيون شاردة وملامح مُتغابية. لا أحد يعرف أيَّ المجالات يرتاد ولا في أيِّ الدروب يسير. تَنِدُّ منه أحيانًا بسمةٌ غامضة: رَسْمُها بين حنينٍ وحَنق وأشواقٍ.
 
تساءلتْ هيئةُ التدريس عن السر الخفي وراء مواظبة السيد غواشي اللافتة، ولم تخلُ تعاليقهم من سخرية لاذعة. فهو موظف في شركة تجهيزات فلاحية، يحضر كلَّ الدروس، مهما كان توقيتها، ومع ذلك لم ينجح في أيِّ امتحانٍ. هل يَرسب عمدًا؟
 
صادفني ذات مساء في محطة المدينة، حيث كنت أنتظر الحافلة. أوقفَ سيارتَهُ المتواضعة، وبحركة لطيفة طلب منِّي الصعود. ركبتُ بجانبه. دون مقدماتٍ قال: "كنتُ متزوجًا من امرأة تونسية. ولي منها بنتٌ عمرها الآن عشرُ سنوات. افترقنا عندما بلغت ابنتنا سنتَها الأولى. لم أرها منذ ذلك الوقت، ولا أحد يعرف محلَّ سكناها. أظنُّ أنَّها فرّت بها إلى قريتها، في أرياف تونس، لتربِّيها في الحقول بين أهلها. أخشى ألاَّ أرى ابنتي أبدًا، وإن لقيتها ألاَّ تَفهمني. أتعلم العربية لأجلها، على أمل أن أحادثَها يومًا بلغتها الأم.
 
نعم. أدرسُ لغتَكم شغفًا بابنتي الغائبة، أكابِد تضاريسَ كَلِمها، ووُعورَةَ نَحوها عسى أتلمس الربى التي قَدمت منها طليقتي، وأسترجع الحقول التي خَطَرَنا في أنحائها في فترة الخطوبَة. ومن رائحة الحِبْر القاني، أتنشق أرجَ الشيح والزعتر الذي طالما ملأ صدورَنا حينها، وإني لأذكر كيف قضينا أيامًا في غابات بَلدَتهـا وضِيَعها، حيث تمتد سطور الزياتين وصفوف شَجَر اللوز. تذكرني حروفُ العربية بتعاريج الأرض وخُضرة الضياع ونَسائم الأصيل. حين أستمع إلى كلماتكم، أستعيد نَبرات الفلاحين، تَنطلق حناجرُهم بأهازيج الريف، وتفيض من أزجالهم مَجازات مسكٍ وماء. تحاكي خطوطُ كَلِماتكم أساريرَ وجوههم الكالحة لمَّا تعلوها بسَمات الجود وأنفاس الصباح. عشقت أرضَكم ولغتكم وهما عندي سِيان".  
 
غادر الطالب الكهل مدارجَ جامعتنا من ثمانِ سنواتٍ. أظنه أوفِدَ إلى تلك القرى وكيلاً عن شَرِكَتَه لبيع المعدات الفلاحية لصغار المزارعين.
 
 تجلس في المقعد الأول فتاةٌ ذات ثمانيةَ عشرَ ربيعًا، تتابع الدرس الأول حول الألفباء. تشع من عيونها سعادة اكتشاف الحروف العربية وتعريجاتها الفائقة. كانت تمسك بأناملها الناعمة قلمَ الحبر الأسود وتَرسم بتؤدةٍ شموخَ الألف، هَجعَة الباء، عناق الجيم لذاتها وعودَةَ القاف على أعقابها. ظللت أتابع حركاتِها بعد أن لفتني شَغَفُها في رسم الحروف، كما لو كانت تضم جَسدًا أو تعانق ذاكرةً.
 
- ما اسمك يا آنسة؟
 
- فريدة غواشي؟
 
- فريدة؟ هل أنت من أصلٍ عربي؟
 
- نعم، أمي تونسية وأبي فرنسي. لم أتعلم العربية من قبل. وهذه أولى ساعاتي في دنيا الحروف.
 
"(...) قررت وزارة التعليم العالي الفرنسية تطبيق مبدأ الكوتة المغلقة clausus numerus على أعداد الطلاب في السنة الأولى بسبب استشراء ظاهرة الانقطاع عن الدراسة الجامعية. وتشترط الوزارة لتسجيل الطلاب امتلاك مشروعٍ علمي أو مِهني واضح يبرر اختيار إحدى اللغات النادرة". علَّق نائبٌ برلماني، من حزبٍ وطني، على هذا الخبر الوارد في شريط الأخبار:
 
- يُعنَى هذا القرار الوزاري بمحاربة جذور التشدد الإسلامي ببلدنا، حيث تستغل جامعاتنا العِلمانية لمآرب إيديولوجية. يتعلم بعض الشباب الفرنسي، من ذوي الأصول المغاربية، اللغة العربية في جامعاتنا وبأموالنا من أجل قراءة تراثهم والالتحاق بحركات الإرهاب".
 
بعد يوميْن، استلمت هذه الرسالة عبر البريد الالكتروني:  
 
"من السيدة مِرزاق- غواشي إلى الأستاذ الفاضل: سُجِّلت ابنتي سارة في فَصلكم، والرجاء مراقبتها بشكلٍ صارمٍ. تحلم ابنتي بإتقان العربية لتقرأ كتاب "السياسة الشرعية" لابن تيمية، في صيغته الأصلية، بعد أن طالعت فصولَه مُتَرجَمَةً. انبهرت بالعصر العباسي وانشَدَّت إلى فقه السياسة ونصائح الملوك. تحلم بإعادة أمجاد الخلافة العباسية. أخشى من فكرة "الخلافة" هذه. لا قِبَلَ لنا بها في وطننا فرنسا. رجاءً، ساعدوني على تنفيرها من الماضي. شجعوها على مطالعة "ألف ليلة وليلة". مع تحياتي".
 
ركبتُ الحافلة التي تعودت ركوبَها من سنوات. صحيح. أغربُ طلبتنا أولئك الذين نَفَّرَهم آباؤهم من ذاكرتهم، وأجبروهم على الاندماج كليًّا في المجتمع الفرنسي. يكرَهُ الآباءُ جذورهم، فينتقم الأبناء بالارتماء فيها. لكنْ ما شأني بهذا؟ عليَّ تصحيح الترجمة، وإرسالها هذا المساء. أخرجتُ أوراقي وشرعت في تصحيحها. ارتفعت حولي أصوات ثلةٍ من أبناء الجيل الثاني، الذين هاجر آباؤهم من قرى المغرب العربي إلى صقيع العاصمة الفرنسية. يتصايح الأولاد في زحمة الحافلة، وقد أمسك كل واحد منهم بهاتفه الجوال. قال أحدهم: « Cousin, j’ai kiffé passer un mois de vacances au bled ». (صديقي! لَكَم استمتعت بقضاء شهر عُطلة في البَلد).  
 
عدتُ إلى أوراقي أتحقق من سلامة اختيار المصطلحات. عليَّ أن أرسل ترجمة هذه المطويات اللعينة حول المُعدات الفلاحية إلى شركة عالمية عملاقة، هَدفها اكتساح أسواق الأسْمِدة. تخصصت في هذا المجال بسبب مهنتي الأصلية: كنت بائع أدواتٍ فلاحيَّة في الأرياف. أصبحت أستاذًا ومترجمًا بمَحض الصُدفَة.