يتعهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، باعتباره أفضل صديق يمكن لإسرائيل الحصول عليه، وربما يقول البعض إنه يهدد، بالكشف عن خطته الكبرى الرامية للتوصل إلى «اتفاق سلام» لإنهاء ما يعرف بمعضلة الشرق الأوسط.
وكثيراً ما وصف ترمب نفسه بأنه صانع الصفقات البارع، حتى أنه ألف كتاباً حول هذا الموضوع. وليس من المستغرب، بعد كل شيء، أنه قد يرغب في استغلال مهاراته في مواجهة القضية التي تحدت خبرات ومهارات الكثير من صناع الصفقات عبر ستة عقود متتالية.
فما هي فرص النجاح المتاحة أمامه؟
الإجابة المختصرة هي: لا شيء ألبتة!
وهذا ليس إسقاطاً على موهبة السيد ترمب الفذة في إبرام الصفقات.
إن المشكلة الحقيقية في «معضلة الشرق الأوسط» تكمن في أن الأطراف التي حاولت حل المعضلة لم يتمكنوا بالأساس من تعريفها، ونتيجة لذلك، جاءت التضحية المريعة بالواقع الوجودي على الأرض لصالح التجرد لمواجهة المثاليات المراوغة.
ولقد بدأت المرحلة الراهنة من الملحمة في عام 1945 مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
وكان صانع الصفقات الأول هو رئيس الوزراء البريطاني الأسبق كليمنت أتلي، الذي تحمل فيما بعد المسؤولية عن مصير الجانب الأكبر من سوريا الكبرى في العهد العثماني البائد، والمعروف باسم «فلسطين». وتحت تأثير وزارة الخارجية البريطانية والتي كانت قد خصصت بالفعل جزءاً من الغنيمة لصالح اتفاقية عبر الأردن، كان السيد أتلي مقتنعاً بصورة واضحة بأن الجزء المتبقي ينبغي أيضاً توزيعه بين الدول العربية، أو حلفاء بريطانيا العظمى المتجمعين تحت مظلة الجامعة العربية.
ومع ذلك، فإن الموقف البريطاني المتصاعد قد واجه معارضة صريحة من جانب الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان الذي اعتبر نفسه أيضاً من أبرع صناع الصفقات. ولإذابة جدار الخلاف بين صناع الصفقات المتنافسين عملت كل من لندن وواشنطن على إنشاء لجنة التحقيق الأنغلو - أميركية.
وكان مبعوث السيد ترومان إلى اللجنة المذكورة هو القاضي الكاثوليكي بارتلي كروم من ولاية كاليفورنيا والذي أقر بأنه لا يعلم شيئاً ألبتة عن تلك القضية. وبرغم ذلك، وخلال الأشهر التي قضاها في المنطقة بين حضور مختلف جلسات الاستماع التي عقدتها اللجنة، والإنصات كذلك إلى مختلف مبعوثي الدول العربية وممثلي السكان الأصليين، والمسيحيين، واليهود، خلص السيد كروم إلى أن إنشاء وطن قومي لليهود، على نحو ما تعهدت به بريطانيا العظمى في وعد بلفور الشهير لعام 1917، لا بد أن يكون جزءاً من أي «صفقة» تُبرم في هذا الصدد.
وفي ذلك الوقت، مع ذلك، تحركت بريطانيا متجاوزة حدود وعد بلفور على أمل إنشاء كتلة عربية في مواجهة الخطر السوفياتي الذي بدأت إماراته في الظهور في أفق المنطقة.
ولقد أخفق كل من أتلي وترومان في فرض صفقاتهما المتباينة. وفي فبراير (شباط) من عام 1947 نقل وزير الخارجية البريطاني إرنست بيفن الكرة إلى ملعب الأمم المتحدة.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) لعام 1947، نصبت الجمعية العامة نفسها كصانع الصفقات الجديد من خلال تمرير قرار الجمعية العامة الجديد رقم 181 الذي يوصي بإنشاء دولتين متجاورتين؛ إحداهما لليهود والأخرى للعرب على أرض فلسطين.
وكانت بريطانيا واحدة من الدول العشر التي امتنعت عن التصويت على القرار المذكور، في حين صوتت 13 دولة أخرى ضد القرار، وهي: أفغانستان، وكوبا، ومصر، واليونان، والهند، وإيران، والعراق، ولبنان، وباكستان، والسعودية، وسوريا، وتركيا، واليمن.
ومع ذلك، سرعان ما أصبح واضحاً أن الأمم المتحدة قد أخفقت هي الأخرى في إبرام هذه الصفقة «المعضلة».
وكان قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة مطولاً، ومفصلاً للغاية، ومملوءاً بالكثير من المصطلحات التي لا يدرك فحواها إلا حفنة قليلة من المحامين المخضرمين ناهيكم عن قدرتهم على إعماله أو إنفاذه.
وبدلاً من الإقرار بالفشل، واصلت الأمم المتحدة لعبة صناعة الصفقات الموهومة. وعمد الأمناء العامون المتعاقبون على رئاسة الأمم المتحدة، من داغ هامرشولد ثم كورت فالدهايم وحتى يو ثانت، إلى تعيين المبعوثين الخواص لإبرام تلك «الصفقة».
وزعم بعض المبعوثين، ومن أبرزهم المبعوث السويدي غونار جارينغ، أنهم قاب قوسين أو أدنى من إبرام الصفقة. وفي كل مرة يعلنون الاقتراب من إبرام الصفقة من دون نتيجة حقيقية تذكر.
وكانت القضية، حتى سبعينات القرن الماضي، تسمى قضية «الصراع العربي الإسرائيلي»، وهو المصطلح الذي تبرره الحروب الأربع التي اندلعت في المنطقة. كما شهد ذلك العقد أيضاً بداية الاتجاه التضخمي في عملية صناعة الصفقات داخل الشرق الأوسط. وانطلق هنري كيسنجر، الموصوف باسم «الأمير مترنيش الحديث»، مطارداً نفس السراب مع دبلوماسية خلط الأوراق التي اشتهر بها وناله ما نال أسلافه من الفشل.
وتبعه على المسار نفسه الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر الذي نجح في عقد الهدنة بين مصر وإسرائيل، غير أنه دفع بعملية السلام إلى آفاق بعيدة.
وبحلول ثمانينات القرن الماضي نال الصراع الشرق أوسطي مسمى جديداً: «القضية الفلسطينية»، وظل الحلم القديم بإبرام الصفقة ماثلاً في أذهان الجميع.
ومنذ ذلك الحين، استمرت قائمة صناع الصفقات المحتملين في استضافة أسماء جديدة، لدرجة أن المقام لا يتسع لسرد تلك الأسماء جميعها في مقالة واحدة. ومن بين أولئك المدعين كان الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وفي سجل مختلف تماماً نجد الحكومة النرويجية قد أدلت بدلوها هي الأخرى. وفي عام 2005 حتى السيدة أنجيلا ميركل، وقد تولت لتوها منصب المستشارة الألمانية، قد لاحت لها فكرة اللعب بلعبة صناعة صفقات الشرق الأوسط، ولكن الحكمة المعروفة عنها سرعان ما انتقلت بها إلى الاهتمام بقضايا أخرى.
وهناك الكثير من الأسباب التي أسفرت عن فشل الكثير من صناع الصفقات في منطقة الشرق الأوسط.
أولاً، أن السلام لا تجري بشأنه المفاوضات على الإطلاق وإنما يُفرض فرضاً من جانب الطرف المنتصر في الحرب. وليس هناك مثال واحد في التاريخ، المعني في المقام الأول بسرد وقائع الحروب ونتائجها، يذكر أن أحد الأطراف الخارجية لصراع من الصراعات قد نجح في فرض السلام على الأطراف المتناحرة غير الراغبة في ذلك السلام.
والسبب الثاني هو أن صناع الصفقات الخارجيين لهم مصالحهم الخاصة وأجندات أعمالهم المهمة والتي تجعل من شبكة المصالح المتداخلة أكثر تعقيداً مما يبدو. على سبيل المثال، وفي حالة صناع الصفقات الأميركيين، كان السؤال المطروح يقول: كيف تنال أصوات اليهود في الولايات المتحدة من دون استعداء العرب الذين يبيعون لنا النفط ويبتاعون منا الأسلحة؟
والسبب الثالث أن الراغبين في صناعة الصفقات لا يقدرون تماماً أهمية الوضع الراهن والواقع الفعلي على الأرض.
وكلما كان الوضع الراهن مقبولاً على أدنى تقدير لدى الأطراف المتناحرة، فإن الرغبة في المخاطرة به على أمل التوصل إلى سلام غير محدد المعالم تتضاءل كثيراً. والكثير من الناس يعيشون في حالة من الوضع الراهن لا يعتبرونها مثالية بحال.
تتعايش روسيا واليابان وتتعاونان مع بعضهما البعض وتحافظان على العلاقات «الصحيحة» على الرغم من أن كلا البلدين في حالة حرب، من الناحية الفنية، مع احتلال روسيا لأجزاء من جزر كوريل المتنازع عليها.
كما تتعايش كل من الصين والهند برغم ضم الصين لأقاليم هندية كبيرة على طول الخط الحدودي بين البلدين.
وهناك بوليفيا وشيلي، اللتان تعتبران في حالة مواجهة حربية من الناحية الفنية أيضاً بسبب ضم شيلي لمنفذ بوليفيا الوحيد على المحيط. وهناك ما لا يقل عن 89 دولة من أصل 198 دولة من الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة ضالعة في نزاعات إقليمية وحدودية، أو هي مواطن لأقليات متمردة، أو ربما انفصالية في بعض الأحيان.
وإن أضفنا إلى ذلك الأحلام غير المحققة والمزاعم المتأصلة في الأساطير أو التاريخ، فإن أغلب أعضاء الأمم المتحدة هم في حالة صراع مفتوح مع جيرانهم. ولم ألتق مع مواطن مكسيكي واحد لا يعتقد أن ولايتي كاليفورنيا وتكساس من الأراضي المكسيكية الخالصة. كما أنك لن تجد أي مواطن صربي لديه القدرة على نسيان إقليم بريشتينا، «مدينتهم المقدسة»، والتي هي الآن تحت سيطرة الألبان المسلمين. وهناك عدد قليل من الإيرانيين الذين لا يشعرون بالحزن لأن بغداد، التي كانت محل عاصمة كتيسيفون القديمة، قد صارت الآن مدينة عربية.
وأخيراً، وبمزيد من الأهمية، لا يمكن إبرام أي صفقات أو التوصل لأي سلام من دون رغبة أطراف الصراع الحقيقيين في ذلك. وفي غياب مثل هذه الرغبة، فإن أفضل ما يمكن استهدافه هو حالة من الهدنة بين الطرفين، تسمح بدرجة من التعايش، والحياة، أو نصف الحياة، كما قال الشاعر الإنجليزي الأميركي إليوت ذات مرة.
بيد أن هناك شيئاً واحداً يمكن للسيد ترمب، صانع الصفقات، أن يفعله. إذ يمكنه أن يطلب من الإسرائيليين والفلسطينيين العمل على إبرام صفقة كل من معسكره الخاص تتعلق بما يريده كل منهم على وجه الحقيقة وإبلاغه بذلك.
وأراهن في هذه اللحظة على أنه لن يتمكن أي من الجانبين من صياغة أي اتفاق داخل معسكره بشأن شكل الصفقة التي يمكن أن يقبلوها، الأمر الذي يعني، من الناحية الضمنية على الأقل، أن كلا الفريقين سعداء بحالة الوضع الراهن القائمة بدلاً من إطالة أمد «عملية السلام» والتي قد لا تسفر في نهاية المطاف إلى السلام الذي لم تعد هناك عملية حقيقية بشأنه الآن.