حاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وقت سابق من هذا الأسبوع، والذي لا يزال مبتهجاً بانتصاره بإعادة انتخابه، أن يعزز من مكانته على الصعيد الدولي من خلال قمة مشتركة بينه وبين نظيره التركي رجب طيب إردوغان. (وكان هناك اجتماع ثلاثي موجز ضم نظيرهما الإيراني حسن روحاني كحاشية مضافة لتبادل وجهات النظر بشأن الأزمة السورية).
ويحتاج بوتين وإردوغان إلى بعضهما البعض على المستوى التكتيكي؛ إذ يوفر إردوغان لبوتين، الذي يؤكد على مكانته تحت صفة الحاكم الوحيد على مستقبل سوريا، الغطاء الإسلامي المطلوب لمجابهة الادعاءات بأن روسيا، التي قصفت أجزاء شاسعة من الأراضي السورية وأسفرت عن مصرع عشرات الآلاف من المدنيين هناك، هي الآن في حالة حرب مفتوحة مع الإسلام. وليس من قبيل المصادفة أن تكون نصيحة الكرملين الأخيرة للدعاة المسلمين في كافة المساجد المنتشرة في مختلف أرجاء الاتحاد الروسي تتضمن المزاعم بأن الخطوات التي يتخذها بوتين في سوريا تحظى بالدعم والتأييد من جانب إردوغان.
ومن جانبه، يحتاج إردوغان إلى بوتين على المستوى التكتيكي كذلك. فلقد كان بوتين هو الذي أوعز إلى ربيبه بشار الأسد بألا يمارس المزيد من الضغوط لأجل بسط السيطرة على المناطق الكردية في سوريا والتي تمكنت تركيا من ضمها خلال العمليات العسكرية الأخيرة. وغضت القوات الروسية المنتشرة في سوريا الطرف تماماً مع انطلاق القوات التركية لاجتزاء نصيبها المفروض من السيادة السورية المتبقية على أراضيها على نحو ما أراد إردوغان. كما لم يستلزم الأمر سوى إيماءة لطيفة من طرف بوتين أن أوقف ملالي طهران إدانتهم الصارخة للعدوان التركي الغاشم على سوريا وضمها لأجزاء من الأراضي السورية. وعلاوة على ما تقدم، وإردوغان يدرك تماماً، كما يدرك أي لاعب وسيط في مقامرات القوة والسلطة، أنه لا غنى له عن حماية القوة الكبيرة مثل روسيا في مواجهة القوة الكبيرة الأخرى المتمثلة في الولايات المتحدة.
والأهم من ذلك، ربما، أن بوتين وإردوغان في حاجة إلى بعضهما البعض لاستكمال الإقصاء الإيراني الكامل من على الطاولة السورية، وهي العملية التي بدأت في عام 2015 عندما انطلق بوتين بنفسه لحيازة لقب حامي حمى ما تبقى من نظام بشار الأسد المتهالك. وفوجئت جوقة من البرلمانيين الإيرانيين ممن زاروا دمشق في الآونة الأخيرة من ملصقات تحتفي بانتصار بوتين والأسد الكبير في الحرب الأهلية من دون أدنى إشارة ولو عابرة إلى المرشد الإيراني علي خامنئي، ناهيكم عن أي ذكر للجنرال قاسم سليماني الذي طالما ما روّج لذاته بأنه إمام الجهاد الأول. كما شوهدت ملصقات أخرى موزعة في دير الزور تصور بوتين والأسد في صورتين كبيرتين مع صور أخرى مصغرة لا تكاد تُرى في الخلفية لخامنئي وحسن نصر الله زعيم «حزب الله» اللبناني.
وللتأكيد على نقطة أننا نشهد عرضاً مسرحياً من بطولة رجلين اثنين فحسب، بذل بوتين وإردوغان كل جهد ممكن ليظهرا سوياً عبر مختلف وسائل الإعلام، من الإعلان عن الخطط الضخمة للصناعة النووية في تركيا، وإعادة تفعيل المشاريع العتيقة التي عفّى عليها الزمن لأنابيب النفط والغاز الطبيعي، بل واستعادة إعلانات مبيعات المعدات العسكرية الروسية الهائلة إلى أنقرة.
ويبدو من ترادفية بوتين وإردوغان أن هدفها الواضح هو تهميش أي دور لإيران داخل سوريا، وتشجيع عزم الرئيس الأميركي دونالد ترمب على الانسحاب من المستنقع السوري، ثم غلق المجال تماماً في وجه أي مبادرة عربية ممكنة بشأن الأزمة السورية. ومع تقليص دور شراذم ما تبقى من نظام حكم الأسد، يأمل كل من بوتين وإردوغان على بسط السيطرة المنفردة على مصير ومستقبل سوريا.
ولكن إلى أي مدى تحظى مثل هذه الطموحات بالواقعية؟ والإجابة الموجزة والسريعة: أنها لا تحظى بالكثير من الواقعية!
وما من شك في تقلص الدور الإيراني داخل سوريا بصورة كبيرة، في حين أن بوتين قد حرم إيران من نصيبها من الأرضي السورية وهي التي كانت تعتزم إقامة قاعدة دائمة هناك تواصل من خلالها بسط سيطرتها على لبنان. وتكمن نقطة الضعف الإيرانية الرئيسية في سوريا في عدم وجود قاعدة تأييد شعبية محلية. ويمكن لتركيا الاستناد إلى تعاطف الأغلبية من العرب المسلمين في سوريا في حين تظهر روسيا في مظهر حارس الأقليات العلوية والمسيحية في الداخل السوري.
ومع ذلك، لا يمكن لإيران الاعتماد على أي قاعدة دعم شعبية من هذا القبيل. وفي واقع الأمر، وقبل سفره إلى تركيا لحضور اجتماع موجز مع بوتين وإردوغان، لمح الرئيس الإيراني إلى أنه قد يطالب بأن تتقدم روسيا وتركيا بمساهمات جادة في تكاليف الحفاظ على «أمن» سوريا من الإرهابيين. ويقدر الوجود الإيراني الآخر في سوريا بنحو 40 ألفاً من عناصر المرتزقة الذين جندتهم إيران من أبناء شعبها، ومن لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان، الأمر الذي يجعل من إيران ثاني أكبر قوة عسكرية على الأراضي السورية بعد بقايا القوات المسلحة السورية وحلفائها.
وسوف يجانب كل من بوتين وإردوغان الصواب إن اعتقدا بأنه يسهل إقصاء الدور الإيراني من المشهد السوري.
كما سوف يكونان على خطأ بيّن إن اعتبرا تغريدات الرئيس ترمب بشأن الانسحاب من سوريا بأنها تعكس قراراً أميركياً واضحاً بهذا الخصوص. وربما يصعب كثيراً التخمين بماهية الخطوة التالية للرئيس الأميركي حيال سوريا، أو حيال أي قضية مهما كانت. ولكن، وحتى الآونة الراهنة، فإن الحقائق السياسية، والدبلوماسية، والاقتصادية، والعسكرية على أرض الواقع تشير كلها إلى العودة الأميركية كلاعب كبير ومؤثر في منطقة الشرق الأوسط. ومع الانتصار شبه الكامل على ما كان يُعرف بخلافة «داعش» المزعومة فلن يكون من الحكمة بالنسبة لواشنطن أن تعصف بكل إنجازاتها المحققة وتُهدي كأس الانتصار إلى منافسيها وخصومها في المنطقة على طبق من ذهب!
وقد يستخف كل من بوتين وإردوغان من سعي الدول العربية وراء الاضطلاع بدور قيادي أكبر في صياغة مستقبل سوريا. غير أن ترادفية التناغم التركي الروسي الرامية إلى الهيمنة على مقدرات المنطقة، مع إيران التي تعزف دائماً في خلفية المشهد القاتم، من غير المرجح أن تسفر عن اللامبالاة المنتظرة من جانب الدول العربية.
وقد يثير أنصار التوجه الميكافيللي أنه ليس من السيئ أن نترك بوتين وإردوغان، وملالي طهران، عالقين في المستنقع السوري الآسن الذي بات يتصف بالإقليم غير الخاضع لحكم أحد بعينه مع أميال تلو الأميال الممتدة من الحطام والأنقاض. ومع أوضاعهم الاقتصادية المتداعية، فإن روسيا، وتركيا، وإيران ليست في وضعية تتيح لها المساعدة في إعادة بناء سوريا المدمرة إلى أي شيء يشبه الدولة الفاعلة. فمثل هذه المهمة الهائلة تستلزم المشاركة الدولية الكبيرة والحقيقية، الأمر الذي يعني دخول الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الخط واضطلاعهما بدور نشط وفعال، ناهيكم عن الدول العربية، والصين، واليابان، من بين دول أخرى.
لم يتمكن بوتين وإردوغان، حتى اللحظة الراهنة، من صياغة سياسة واقعية محددة المعالم بشأن سوريا.
ومن شأن هكذا سياسة أن تستند في مقامها الأول إلى الاندماج وليس الإقصاء.
ويهدف الجزء الخاص بالاندماج فيها إلى الاعتراف بمصالح واهتمامات كافة القوى الأجنبية الفاعلة على أرض الواقع فضلاً عن كافة القوى المحلية العاملة والضالعة في الأوضاع المربكة والمعقدة التي يعاني منها هذا البلد عبر السنوات السبع المنقضية ولا يزال.
ولا يُعنى هذا الاندماج بمماهاة نموذج مؤتمر برلين بشأن تقسيم المستعمرات بين كبار القوى الأوروبية. ولكن ينبغي أن يقبل بالحقائق الواقعية على الأرض في الوقت الذي تُمنح فيه الأولوية إلى استعادة قدر ولو يسير من الاستقرار في البلاد.
ومن شأن الجزئية الخاصة بالإقصاء أن تُمنح بكاملها إلى نظام حكم بشار الأسد الذي لا يعدو الآن كونه مجرد رسم كاريكاتوري هزلي للموتى الأحياء، وإلى شراذم ما تبقى من خلافة «داعش» الموهومة.
يمكن إنقاذ سوريا، في حالة الحفاظ عليها لأجل الجميع، بدءاً من الضحايا الذين قضوا دفاعاً عنها. وحتى الأسبوع الحالي، لم نستمع إلى أي شيء جاد من بوتين وإردوغان يتعلق بمدى إدراكهما لهذه الحقيقة البسيطة!