نوّدع قامة أمنية شمخت في زمن العواصف، لم تتراجع رغم التهديدات، صمدت بجرأة وعزم أمام محاولات أذلال طغاة تحكموا بالقرار الأمني والقضائي في لبنان في حقبة مظلمة من تاريخ الوطن، رفض الركوع والخضوع ولو كان الثمن الأقصاء عن قيادة الشرطة القضائية في صيف سنة 1993.

عاش عزيزا ومات مكرما من سيد الجبل الذي لم ينقطع عنه يوما، وبأدق الظروف،حزنت الناس لفقدانه ، بينما هم  عاشوا مستبدين متجبرين، وماتوا بالسم او بالرصاص القريب، لم تنفعهم ملايين الدولارات وسبائك الذهب التي سلبوها من بنك المدينة، هم ذهبوا بجبروتهم وبقي عصام أبو زكي مرفوع الرأس وموفور الكرامة.

اعتاد الناس أن يقصدوا منزله، مكتبه، سيارته، بل أينما كان، وكان بشوش الوجه، سريع التحرك لمساعدتهم وقضاء حاجاتهم المحقة، وها هم اليوم يودعونه بحزن وألم لخسارته.

اعتاد منذ زمن والده المرحوم العقيد أنيس  أبو زكي التعرف الى شكاوى الفقراء والمحتاجين، أعطاهم الاهتمام وحسن الأستقبال، وكان صوت الضميرعنده يتقدم ما يشرعه القانون، والتعليمات والمذكرات، أوليس الضمير هو المراقب الأهم بحياة البشر؟

عاش شجاعا ذا مخيلة تتخطى ما يرسمه المجرمون والأرهابيون، تفوق عليهم في أسواق طرابلس، وأنهى دولة المطلوبين وأوقف كبارهم وأعاد الى الدولة هيبتها وعزتها لكن كل ذلك تلاشى مع الحرب اللبنانية الهمجية مطلع شهر نيسان 1975.

تولى قيادة الشرطة القضائية في صيف 1984، وهي التي أنتظرته منذ أنتهاء ولاية قائدها العميد محمود طي أبو ضرغم بتاريخ 31-12- 1982 حيث عاد الى الجيش اللبناني،  أعترض البعض على تعيينه، وهم الذين تولوا الحكم بنتيجة اجتياح 1982، لكن نتائج أحداث شهر شباط 1984 قلبت الموازين وفرضت طلبات وليد جنبلاط بالقوة. وكان عصام أبو زكي الأطول ولاية  بين قادة الشرطة القضائية جميعا والتي دامت تسع سنوات .

كنت التقيه بعد تقاعده في منزله، في العقد العاشر من القرن الماضي، أستمع الى خبراته، أسترشد باستنتاجاته، وكان يزورني في قيادة الشرطة القضائية يتذكر حملات مكافحة المخدرات والتي نال من أجلها ارفع الأوسمة الوطنية والدولية، وتحقيقات جنائية معقدة أنجزها وفك الغازها، ويؤكد بأن الشرطة القضائية هي المرفق الأمني القانوني للتصدي للجريمة والعريقة بانجازاتها منذ القديم. وأن ما نشره بكتابه جزء بسيط من اسرار هامة تبقى معه محافظة على قسم المحافظة على أسرار المهنة.

سيبقى العميد عصام أبو زكي مدرسة بالوطنية الصادقة والتواضع وعزة النفس، تاريخا ناصعا، علما خفاقا ونسمة فواحة تنشر عطرها بين الناس والأمنيين مهما طال الزمن كلما مررنا قرب ثكنة الحلو نستعيد قراره بالتصدي للدبابات الإسرائيلية التي اجتاحت بيروت 1982، أو ثكنة حبيش مقره الموقت زمن العصيان، أو المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، مقر قيادته، هذه المديرية التي لم تقصر عن متابعة الملف الصحي للمرحوم وبذل كل الامكانيات لانقاذ الجسد الذي فتك به المرض. فإذا كان الجسد الى تراب فان الأنجازات الأمنية المحققة والمثل العليا وثمار الشعور بالمواطنة التي زرعها في نفوس مرؤوسيه ستبقى حيّة خالدة أبداً.

(أنور يحي- قائد سابق للشرطة القضائية)