بادر الثنائي حركة «أمل» و«حزب الله» إلى إعلان مرشحيهما باكراً، ودفعةً واحدة، وبتنسيق كامل. وأما القوى الأخرى فكلها غارقة «نسبياً» في عثراتِها، وبعضها يقول في سرِّه ما لا يجرؤ على قوله علناً: «أتمنّى لو يُتاح لي الالتحاق بالمركب الشيعي. فهو الضمان الأفضل للوصول إلى المجلس!»
 

أظهر «الثنائي» براعة في توزيع المرشحين. كأنها لعبة «المكعَّب الملوَّن» الشهيرة، حيث اللّاعب يقوم بتحريك الألوان فتتوحَّد في كلٍ من جوانبه الستة. وهذه اللعبة تحتاج إلى لاعب يتقن التفكير ببرودة ويتمتّع بـ«النفَس الطويل».

ليست المسألة فقط في أنّ مرشحي حركة «أمل» و«الحزب» يتكاملون في ما بينهم، بل في أنّ هؤلاء معاً يفرضون طبيعة المعركة على القوى الأخرى، في دوائر عدة.

مثلاً: في جبيل، حيث «التيار الوطني الحرّ» «يتحسَّس» من العلاقة مع الرئيس نبيه بري، قرَّر الثنائي تسمية مرشَّح شيعي محسوب على «حزب الله». وأما في جزين، حيث لا مقعد شيعياً، فقرَّر «الحزب» أن يدعم رغبة بري في انتزاع مقعد ماروني من «التيار» إلى كتلته.

وكل المرشحين في الدوائر الأخرى، حيث هناك تماس مع القوى المسيحية أو السنّية، جرى توزيعهم بين حركة «أمل» و«الحزب» وفقاً لِما يناسب (بعبدا، بيروت، زحلة، البقاع الغربي…).

تؤكد هذه الحسابات أنّ الثنائي سيتمكّن من بناء أقوى تكتّل في المجلس النيابي المقبل، مدعوماً بمقاعد نيابية تُحتَسَب صافية له، أي ضمن كتلتي بري و«الحزب» وقوى 8 آذار، إضافة إلى النائب وليد جنبلاط، وقد تصل إلى 80 مقعداً.


أما المسائل التي تحظى بدعم تيار «المستقبل» أيضاً، فقد تحظى في المجلس النيابي بغالبية الثلثين. وأهميّة هذه الغالبية هي أنها متنوعة طائفياً ومذهبياً وسياسياً، ويمكن اعتبارها «ميثاقية» إذا احتاج الأمر، لأنها تضمّ القوى الأساسية في الطوائف كلها.


ولذلك، سيكون المجلس النيابي المقبل قادراً على إنجاز خطوات تشريعية مفصلية. ومن الصعب أن تخرج عن هذا الإجماع أي من القوى الثلاث التي يَظنّ البعض أنها قد تميِّز نفسها عن «حزب الله» وسياسته في المرحلة المقبلة.

وهي، على التوالي، الرئيس سعد الحريري، النائب وليد جنبلاط و»التيار الوطني الحر». ويعود ذلك إلى الأسباب الآتية:


1- أجرى الحريري كثيراً من اختبارات العداء لـ«حزب الله»، خلال سنوات غيابه عن لبنان. واستنتج أنه لم يحقّق حلمه بالعودة إلى السلطة وزعامة «المستقبل» إلّا بالرضوخ إلى منطق التسوية مع «الحزب»، الذي نصحه به جنبلاط.


فقد اقتنع بأن يكون رئيس الجمهورية من حلفاء «الحزب» (فرنجية ثم عون)، وهو تخلّى عن حربٍ لا هوادة فيها ضد سلاح «الحزب» وانخراطه في المعارك الإقليمية، وقرّر «مساكَنته» في الحكومة. وأخيراً، قام باستعداء حلفائه الآذاريين الذين اتهمهم بـ«كتابة التقارير» ضده لدى الحلفاء العرب.

وسيخوض الحريري انتخاباته النيابية محشوراً، بين الشركاء القدامى والشركاء الجدد والوسطيين، وهو وعَد بمقاتلة «الحزب» انتخابياً، لكنه سيتشارك مع حلفائه الشيعة والمسيحيين والدروز… فأين المفرّ؟


وانتهت أزمة الحريري في السعودية بتكريس مسار التسوية، حتى إشعار آخر. وإذا كان اليوم، في ظل مجلس نيابي متوازن القوة، يعجز عن مغادرة هذا المسار، فإنه بالتأكيد لن يغادر المركب في ظل المجلس النيابي الآتي، المكسور التوازن تماماً.


2- للأسباب إيّاها، سيبقى جنبلاط محافظاً على معادلة «تنظيم الخلاف» مع «حزب الله» أو «فكّ الارتباط» بين «الحزب» والنظام السوري. فـ«حزب الله» مُكَوِّن لبناني لا بدّ من التفاهم معه سياسياً والتنسيق معه ميدانياً في الجبل. وسيتمسّك جنبلاط بهذه المعادلة لحماية نجله تيمور الذي يريده أن يدخل المجلس والحياة السياسية قوياً وبكتلة نيابية «لائقة» ومتنوعة طائفياً. ولا بدّ من الاستعانة بالحليف القديم، الرئيس نبيه بري، لضمان هذا الهدف.


3- بديهي أنّ «التيار الوطني الحرّ» سيُغلِّب تحالفه مع «حزب الله» على أي تحالف آخر في المرحلة المقبلة. وسيصطدم المجلس المقبل بمأزق تشكيل حكومة جديدة. وسيجد «التيار» نفسه أمام حتمية المقايضة: رئاسة المجلس النيابي مقابل نجاح العهد وتشكيل الحكومة والحفاظ على موقع «التيار» داخلها.

وطبعاً، سيختار «التيار» المقايضة الأنسب له، والتي تقضي باستمرار التفاهم مع الفريق الشيعي، وفق نهج التسوية السائر حالياً، بلا صدمات كتلك التي حصلت أخيراً بين باسيل وبري.

إذاً، بناء على المعطيات، المراهنة على إضعاف «حزب الله» بعد الانتخابات سياسياً تبدو وهميّة. ولا مجال لفكّ ارتباط القوى الثلاث غير الشيعية بثنائي «أمل» - «حزب الله» بعد الانتخابات المقبلة. وهذا ما تدركه القوى الدولية الفاعلة والمعنية بالملف اللبناني، والتي تراقب التطورات عن كثب. فلا أحد يتوهّم بأنّ ما عجزت القوى عن تحقيقه حتى اليوم ستفعله بعد شهرين!


ويتحدث المطلعون على اتجاهين يتنازعان دوائر القرار، لدى واشنطن والحلفاء الغربيين، في ملف الانتخابات النيابية:


1- تشجيع خيار التمديد للمجلس النيابي مجدداً، بما يكفي لإعطاء فرصة جديدة لانتخابات أكثر توازناً. ولكن، هل الظروف الميدانية والسياسية في لبنان تسمح بخلق جوّ متوازن، وما الحدود الزمنية التي تكفي لخلق هذا التوازن؟


2- إجراء الانتخابات في موعدها. وعندئذٍ، تكون القوى السياسية اللبنانية كلّها مسؤولة عن خيار تسليم لبنان إلى «حزب الله». وليتحمّل الجميع مسؤولياته عن ذلك، واحتمال أن يتعرض لبنان كله للعقوبات، في هذه الحال. ولا أحد في الخارج يحبّذ هذا الخيار كأولوية، لأنه مكلف جداً للبنان واستقراره.


كل الأمور موضع مناقشة في الخارج، كما في الداخل بين القوى السياسية التي تدرس ملف إجراء الانتخابات في 6 أيار، بإيجابياته وسلبياته. والحسم يقترب.