هجوم دام لتنظيم داعش في محافظة كركوك، يظهر أن حسم حرب الجبهات ضدّه ليس نهاية المطاف لحقبة عدم الاستقرار والاضطراب الأمني في العراق، وأنّ البلد مقدم على حلقة جديدة من العنف ستشعلها فلول التنظيم التي ستظلّ تجد في الواقع العراقي وما يميّزه من فقر وتهميش، وما يخترق المجتمع من نوازع طائفية وعرقية، أرضية للنشاط والتحرّك وتصيّد الأتباع
 

حمل أكبر هجوم شنّه تنظيم داعش في العراق منذ الإعلان الرسمي في ديسمبر الماضي عن تحقيق النصر عليه، رسالة بالغة السلبية بشأن الوضع في البلد الذي تطمح قيادته السياسية إلى تأكيد الخروج من مرحلة الحرب والدخول في مرحلة الإعمار والاستقرار، وتحاول إقناع الدول والشركات بالانخراط في العملية وتمويلها.

وكشف الهجوم الذي شنّه تنظيم داعش في محافظة كركوك بشمال العراق وأوقع عددا كبيرا من القتلى في صفوف عناصر ميليشيات الحشد الشعبي، أنّ التنظيم ما يزال بعد الحرب الضروس التي دارت ضدّه في العراق وشارك فيها تحالف دولي قادته الولايات المتحدة إلى جانب القوات النظامية العراقية المدعومة من الميليشيات الشيعية، قادرا على تجميع صفوفه وتنسيق عملياته وتوجيه ضربات موجعة لمحاولات بسط الاستقرار في البلاد.

وقال الحشد الشعبي المكوّن من العشرات من الميليشيات الشيعية، الاثنين، إن 27 من عناصره قتلوا الأحد بكمين لمسلحي تنظيم داعش في محافظة كركوك شمالي البلاد.

وأوضح في بيان أنّ الكمين نفّذته مجموعة من عناصر داعش متنكرين بالزي العسكري، ضدّ قوة خاصّة من الحشد كانت تقوم منذ أيام بـ”عمليات نوعية لاعتقال عدد من الإرهابيين والخلايا النائمة في منطقة الحويجة -جنوب غرب كركوك- والمناطق المحيطة بها”.

وقال ضابط برتبة عميد في قيادة شرطة كركوك لوكالة فرانس برس طالبا عدم الكشف عن هويته، إن غالبية الجثث التي عثر عليها في موضع الهجوم كانت مقطوعة الرؤوس.وشرح مسؤول في الحشد الشعبي أن عناصر داعش أقاموا حاجزا وهميا على طريق قرب مدينة الحويجة وهم يرتدون بزات عسكرية، وطلبوا من عناصر الموكب التوقف والنزول من آلياتهم قبل إطلاق النار عليهم.

وكانت القوات العراقية قد استعادت في أكتوبر الماضي قضاء الحويجة آخر معقل لتنظيم داعش في المحافظة.

كما أعلن العراق في شهر ديسمبر الماضي استعادة جميع أراضيه من قبضة التنظيم والتي سيطر عليها في 2014 وبلغت ما يقارب ثلث مساحة البلاد. لكن التنظيم ما يزال يمتلك خلايا نائمة في أرجاء العراق، وبدأ يتحوّل تدريجيا إلى أسلوب الهجمات الخاطفة.

تحقيق الاستقرار في العراق سيظل رهين إحداث إصلاحات جوهرية تخفف المشاعر الطائفية وتضيق مساحات الفقر والتهميش
واعتبر مراقب سياسي عراقي أن ما حدث في كركوك يكشف حقيقة أن الانتصار العسكري على التنظيم والذي سيخوض العبادي الانتخابات القادمة على أساسه، كان منقوصا. فكمين بذلك الحجم -وفق ذات المتحدّث الذي طلب عدم ذكر اسمه- لا يمكن النظر إليه من جهة كونه نشاطا عابرا لخلايا إرهابية نائمة. وقد لا يبدو بعيدا عن الواقع القول إن تداعيات ما حدث في المناطق المستعادة من داعش من جرائم اتهم الحشد الشعبي بارتكابها قد أدت إلى نشوء جماعات مسلحة، قد لا تكون على صلة بـ”داعش” من ناحية تنظيمية، غير أن أهدافها الانتقامية سيتم النظر إليها باعتبارها ردة فعل لهزيمة التنظيم. وهو ما ستركز عليه وسائل الإعلام الرسمية العراقية في تفسيرها لما يحدث.

ووفق المراقب ذاته فإنّه ما لم تغير الحكومة العراقية من طريقتها في التعامل مع ملف المناطق المحررة بكل ما تتضمنه من إهمال، ستقع الكثير من العمليات الانتقامية التي سيكون الحشد الشعبي هدفها الرئيس. إذ أنّ الأخير متهم بما لا يقبل اللبس بارتكاب جرائم متعمدة في حق المدنيين في مناطق عراقية بعد استعادتها من قبضة داعش. وهو ما لا يمكن القفز عليه من خلال مشروع هائل لإعادة الإعمار وتطبيع الأوضاع في مدن لا يزال سكانها حتى اللحظة يبحثون عن مفقوديهم تحت الأنقاض.

وذهب خبراء أمنيون إلى أن هجوم كركوك يمكن أن يمثّل تدشين مرحلة جديدة من حرب داعش في العراق؛ مرحلة حرب العصابات والهجمات السريعة الخاطفة، بدل حرب الجبهات والسيطرة واسعة النطاق على الأراضي والتي انهزم فيها بفعل حجم القوّة التي واجهته.

وكثيرا ما يحذّر الخبراء من أنّ جهدا أمنيا كبيرا ما يزال ينتظر العراق بعد حرب داعش المرهقة، وأنّ تحقيق الاستقرار سيظل أيضا رهين إحداث إصلاحات جوهرية عميقة تعيد ثقة المواطن بالحكومة وتخفّف المشاعر الطائفية وتضيّق مساحات الفقر والتهميش التي تمثّل خواصر رخوة يسهل على الإرهابيين والمتشدّدين اختراقها وتصيّد أتباع لهم من بين سكانها.

وإضافة إلى أبعاده الأمنية، فإنّ هجوم كركوك سيتّخذ وسيلة للدعاية السياسية من قبل الفرقاء العراقيين المقدمين على انتخابات مفصلية في مايو القادم، خصوصا وأنّ أكثر من طرف يريد أن يجعل من هزيمة داعش ورقته الانتخابية.

وطالب جاسم محمد جعفر البياتي النائب بالبرلمان عن ائتلاف دولة القانون بقيادة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الاثنين، القائد العام للقوات المسلحة الذي هو العبادي نفسه بتكليف المعنيين بوضع خطط لتطهير المناطق امتدادا من جبال حمرين إلى غاية غرب محافظة ديالى من فلول داعش.

ووصف البياتي في حديث لموقع السومرية الإخباري ما حدث في الحويجة بأنّه “مجزرة وسابقة خطرة يجب منع تكرارها”.

ومن جهته انتقد أرشد الصالحي رئيس الكتلة التركمانية في البرلمان العراقي استبدال قوات الجيش بالشرطة في مناطق جنوب غربي كركوك، معتبرا أنّه خطأ جسيم يتحمله من قام به، داعيا العبادي إلى كشف ملابسات انتشار عناصر داعش في تلك المناطق.

وذكر في بيان “نؤكد للعراقيين جميعا أننا سبق أن حذّرنا الحكومة العراقية من أن تطهير كركوك لم يتم بشكل كامل.. وأن داعش مازال موجودا في أطراف كركوك وأبلغنا القائد العام للقوات المسلحة بخطورة الوضع في المدينة وأطرافها ومن كل المحاور”. وأضاف “إننا في الجبهة التركمانية استبشرنا خيرا من انتشار الجيش حول كركوك ولكن الضغوط السياسية التي مورست على الحكومة دفعت إلى تبديل قطعات الجيش بالشرطة وهو خطأ جسيم”.