بين شهري تمّوز وتشرين الثاني الماضيين، استطاع الروس والأميركيّون تحقيق بعض نقاط تفاهم في الملفّ السوريّ على الرغم من أنّ العلاقات الثنائيّة لم تكن في أفضل أحوالها. ففي قمّة مجموعة العشرين – هامبورغ التي شهدت اللقاء الأوّل بين الرئيسين الأميركيّ دونالد ترامب والروسيّ فلاديمير بوتين، وافق الطرفان على اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب سوريا كمقدّمة لإنشاء منطقة خفض تصعيد. وأتى ذلك، تتويجاً لمسار من المحادثات بين مسؤولين من كلتا الدولتين استمرّ لعدّة أشهر. أمّا على هامش قمّة التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ “أبيك”، فقد تمكّن الرئيسان من التوافق على عدم وجود حل عسكري في سوريا مشدّدَين على التزامهما بسيادة سوريا ووحدة أراضيها، ومطالبين جميع أطراف النزاع السوري بلعب دور نشط ضمن عمليّة السلام في جنيف.

وأشارت تقارير متعدّدة إلى أنّ الزعيمين اتّفقا في القمّة على إبعاد النفوذ الإيرانيّ عن جنوب سوريا، لكن بعد أقلّ من أسبوع، عاد وزير الخارجيّة الروسيّ سيرغي لافروف لينفي وجود توافق حول هذه النقطة. أجواء التعاون المحدود في الملفّ السوري والتي سادت بين الطرفين خلال النصف الثاني من السنة الماضية، بدأت تتبدّد مع الانحسار السريع لرقعة داعش وازدياد احتمالات اصطدام العاصمتين عسكريّاً في شرق سوريا بطريقة غير مباشرة عبر وكلائهما. ومع مطلع العام 2018 كانت نظرة الولايات المتّحدة تكمل تحوّلاتها من سياسة تتبنّى القضاء على داعش فقط إلى سياسة تسعى لتكريس نفوذ دائم قائم على تجنّب عودة الإرهاب وقطع الممرّ الإيرانيّ وتحقيق انتقال سلميّ في السلطة على المدى البعيد.

100 قتيل من الموالين للنظام

يوم الأربعاء الماضي، تجدّدت المخاوف من انزلاق القوّتين إلى مسار متدهور في العلاقات بعد قصف التحالف الدوليّ قوّات موالية لدمشق هاجمت “قسد” على بعد 8 كيلومترات شرق الفرات وإيقاعه حوالي مئة قتيل من بينها. ووصف بيان التحالف هذا القصف بأنّه “حالة دفاع مشروع عن النفس” مضيفاً أنّ هجوم دمشق “لا مبرّر له” وأتى ضدّ “مركز مراقبة معروف جيّداً أنّه لقوّات سوريا الديموقراطيّة”. بالمقابل، ردّت وزارة الدفاع الروسيّة على القصف مشكّكة بنوايا الولايات المتّحدة في محاربة الإرهاب وواصفة أهدافها بأنّها تتمحور حول “الاستيلاء على أصول اقتصاديّة”. وقالت الناطقة باسم وزارة الخارجيّة الروسيّة ماريّا زاخاروفا إنّ “الحضور العسكريّ الأميركيّ غير الشرعيّ على أراضي سوريا لا يزال يشكّل تحدّياً أمام التحرّك نحو السلام في البلاد والحفاظ على وحدة وسلامة أراضيها”. ورأت أنّ المنطقة الآمنة التي أقامتها واشنطن بشكل أحاديّ حول قاعدة التنف “تستخدمها بقايا الدواعش”.

قد يكون الصراع حول حقول النفط في دير الزور إحدى فتائل التوتّر بين الروس والأميركيّين في المرحلة المقبلة، لكنّه لن يكون الوحيد. فقبل تلك الحادثة، كان إعلان وزير الخارجيّة الأميركيّ ريكس تيليرسون لاستراتيجيّة بلاده الجديدة تجاه سوريا أواسط الشهر الماضي، لافتاً لأنظار كثر من بينهم الروس. على الأرجح، يشعر الكرملين بتشديد واشنطن موقفها في الملفّ السوريّ بطريقة قد تنازع موسكو على مكاسبها التي حقّقتها في الفترة الماضية. ومع ذلك، يعتقد محلّلون أنّ قواعد اللعبة لن تتغيّر لمصلحة الأميركيّين في المدى المنظور.

تبدّل مراكز الثقل التاريخيّة
يؤكّد الدكتور مايكل شارنوف ل “النهار” أنّ “روسيا هي اللاعب الأقوى في سوريا وأنّ النفوذ الروسيّ سيسود في المستقبل القريب”. بداية، يشرح شارنوف، أستاذ مشارك في دراسات الشرق الأوسط ضمن مدرسة دانيال مورغان للدراسات العليا للأمن القومي، أنّ مصالح روسيا تعود إلى خمسينات القرن الماضي. وينطلق من تبدّل مراكز الثقل الجيوستراتيجيّة في المنطقة ليفسّر ضمان التفوّق الروسيّ في المرحلة المقبلة. “لقد حلّت دمشق محلّ القاهرة كأكبر متلقّ للمساعدات الروسيّة في الشرق الأوسط بعدما طرد الرئيس أنور السادات المستشارين السوفيات سنة 1972”. بالتالي، اعتمدت سوريا وروسيا على بعضهما البعض في المجالين السياسيّ والعسكريّ، وبقيت دمشق أقرب حليف إلى روسيا في الشرق الأوسط.

في مقابل هذا الدعم، يتابع شارنوف، سمحت دمشق لموسكو بالوصول إلى المرافئ السوريّة في اللاذقيّة وطرطوس والقاعدة العسكريّة في تياس. إنّ طرطوس واللاذقيّة هما نقطتا الشحن الأساسيّتان لإرسال السلاح من روسيا إلى سوريا. ويشير أيضاً إلى أنّهما القاعدتان اللوجستيّتان الأساسيّتان الواقعتان وراء مضيق البوسفور خلف القاعدة الروسيّة البحريّة الأساسيّة في سيباستوبول على شاطئ البحر الأسود. واعتمدت موسكو تاريخيّاً على الدعم السوريّ في المحافل الدوليّة، وكان ذلك بارزاً حين لم تقبل دمشق أن تدين موسكو خلال احتلال الاتحاد السوفياتي لافغانستان والحرب اللاحقة (1979-1989).

رؤية روسيّة واضحة.. بعكس الرؤية الأميركيّة
بالعودة إلى الحاضر، يشدّد شارنوف على أنّ الولايات المتّحدة “لا تملك استراتيجيّة متجانسة في سوريا وقد دافعت عن أجندات مختلفة مثل الإغاثة الإنسانيّة، ووجوب تنحّي الأسد وهزيمة تنظيم داعش”. لكن على الضفّة الأخرى، تملك روسيا “استراتيجيّة واضحة ومتناسقة: الدفاع عن حليفها الأسد”. وأضاف أنّه في سنة 2015، نشرت موسكو قوّتها العسكريّة دعماً لحكومة دمشق الأمر الذي ضمن هزيمة المعارضة السوريّة المدعومة من الغرب. “الأسد هنا اليوم من أجل أن يبقى (كما) ساد النفوذ الروسيّ”. وبعدما شدّد شارنوف على عدم وجود العديد من الخيارات أمام الولايات المتّحدة كي تجعل التأثير الروسي يتعرّض للتآكل في سوريا، ختم تحليله بعرض الأهداف الأساسيّة للسياسة الروسيّة في البلاد، خلال السنوات الخمس المقبلة:

– الحفاظ على نظام الأسد
– منع انتصار إسلاميّ يمكن أن يزعزع استقرار روسيا
– صدّ أيّ جهد أميركيّ لتغيير النظام
– تأمين الوصول إلى المياه الدافئة
– تعزيز النفوذ الروسيّ من خلال حرب المعلوماتيّة
– دفع النفوذ الأميركي في العالم العربي إلى التآكل