ما جمع جمهور التيار العوني و'جمهور المقاومة' هو قاسم مشترك عماده مقت صعود السنية السياسية بالنسخة الجديدة التي قادها الراحل رفيق الحريري في بداية التسعينات من القرن الماضي والتي لم تلق ارتياحا لدى الموارنة.
 

أن يُوصفَ رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري بـ“البلطجي” وأن يُهدّد بـ“تكسير الراس” من قبل وزير الخارجية جبران باسيل، فذلك من علامات تفتّت أعمدة نظام سياسي حكم البلاد منذ اتفاق الطائف عام 1989. فزعيم حركة أمل لعب الدور المفصلي الأول على المدى العقود الأخيرة، مستفيدا في زمن أول من مرحلة الوصاية السورية، ومتحالفا في زمن ثان مع حزب الله، للإمساك بمفاصل التركيبة السياسية، تارة بصفته أمير حرب وتارة أخرى بصفته أميرا يجيد بدهاء إدارة الشأن السياسي داخل، وحول، التناقضات المحلية كما داخل أدغال التحوّلات الإقليمية الكبرى.

والمسألة لا ترتبط بما يقال إنه غياب الكيمياء الشخصية بين بري ورئيس الجمهورية ميشال عون، كما لا ترتبط بنزق زعيم حركة أمل من “صبيانية” رئيس التيار الوطني الحر وطموحاته المفرطة داخل المشهد السياسي العام. وما الظواهر التي تورّمت وانفجرت قيحا داخل التسريب الشهير لفيديو يفضح كيف يفكر باسيل ببري، إلا تعبير عن الأعراض الأولى عن تمرّد التيار العوني وجمهوره على تحالف قام بين مارونية سياسية وشيعية سياسية قيل إنه سيصبح ثابتة بنيوية من ثوابت النظام السياسي اللبناني الذي يطيح إلى الأبد بالثنائية المارونية السنية التي تشكّلت بعد استقلال البلاد عام 1943.

ليس في الأمر تسرّعا أو استشرافا رغبويا، ذلك أن ما جمع جمهور التيار العوني و“جمهور المقاومة” هو قاسم مشترك عماده مقت صعود السنية السياسية بالنسخة الجديدة التي قادها الراحل رفيق الحريري في بداية التسعينات من القرن الماضي والتي لم تلق ارتياحا لدى الموارنة، الذين رأوا في اتفاق الطائف إجحافا بحقهم، وسبّبت قلقا لنظام الوصاية السوري، الذي رأى في صعود الحريرية انتشالا لسنية سياسية جرى خنقها وتفتيت منابرها.

ومن يعرف العمق الفكري والثقافي والأيديولوجي للمسيحيين في لبنان الذين عبّروا عن خياراتهم عبر منافذ البطريركية أو الشهابية أو الأحزاب العريقة، ومن درس أداء تلك المسيحية على اختلاف مشاربها، سواء في مواجهة الموجات الأممية والقومية أو في التصدي للوجود الفلسطيني المسلح في البلاد، ومن تأملَ المسار السياسي للجنرال ميشال عون نفسه من ماضيه المقرّب من زعيم القوات اللبنانية الراحل بشير الجميل مرورا بتجربته في بعبدا بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل انتهاء بشهادته داخل الكونغرس ضد الوجود السوري في لبنان، سيصعب عليه تفهم ذلك التحالف المضاد للطبيعة بين العونية وحزب الله، كما سيصعب عليه تصديق ذلك الهيام الذي اجتاح الجمهور العوني بـ“المقاومة” وسيدها.


يسعى التيار الوطني الحر لإدارة أزمته مع حركة أمل ورئيسها على قاعدة أن التيار لم يعتبر يوماً بري حليفا بل حليفا للحليف. يؤكد التيار في خطابه التفريق بين الخلاف مع “أمل” وثوابت التحالف مع حزب الله وخيار المقاومة، وبالتالي يسعى العونيون بيأس لوضع مقاييس ومواصفات ترسم علامات ركيكة تفصل ما بين الحركة والحزب داخل “جمهور المقاومة”.

لكن في هذه المناورة ما يكشف أيضا صعوبة الاستمرار في التآلف داخل التحالف الذي جمع العونية مع الحركة والحزب حين أطاحوا سوية بحكومة سعد الحريري في العام 2009، وحين احتلوا قبل ذلك الوسط التجاري لمدينة بيروت ضد حكومة فؤاد السنيورة عام 2006 وحين باركت العونية “غزوة 7 أيار” التي قام بها مقاتلو الحركة والحزب واعتبرها السيد حسن نصر الله “يوما مجيدا”.

وإذا ما كان في شتائم باسيل لبري أعراض متقدمة لخلاف بري مع عون، فإن في ذلك أيضا أعراض تصدّع في علاقات العونية بصفتها تحمي الدولة في بعبدا، بشخص الرئيس ميشال عون، مع الدويلة التي يمثل حزب الله أبرز تجلياتها، فيما تستظل حركة أمل ورئيسها بتلك التجليات.

يدرك حزب الله تماما أمر ذلك. يمثّل نبيه بري في سلم السلطة في لبنان واجهة ما يريده وما يخطط له حزب الله في لبنان. اصطدمت الحركة والحزب على نحو دموي خطير في ثمانينات القرن الماضي قبل أن ينهي الوفاق بين نظام الولي الفقيه في إيران ونظام حافظ الأسد في سوريا أمر تلك المذبحة، وتتشكل ثنائية شيعية نما داخلها تفوّق للحزب تحول إلى ما يشبه الهيمنة غير المعلنة على شؤون الشيعة في لبنان. يدرك حزب الله أن الطرق على أبواب نبيه بري من قبل العونية السياسية هو نذير طرق مقبل على أبواب الحزب نفسه. فإذا ما كان التوقيت الحالي يسمح لباسيل بوصف بري بـ“البلطحي”، فإن توقيتاً آخر سيسمح بإطلالة عونية أخرى على ظاهرة الحزب ووجوده. ويعرف الحزب أن الموظفين الأميركيين يتوافدون على بعبدا حاملين ملفات واشنطن ضد الحزب، ويدرك جبران باسيل نفسه أن طموحاته الرئاسية شبه المعلنة لن تترجل من الأحلام إلى الواقع دون أن توفّر واشنطن غطاء يمنع “الفيتو” عنه داخل قصر بعبدا.

يمسك الرئيس ميشال عون بجدارة العصا من الوسط. دفع ثمن ذلك في تراجع علاقته مع الرياض بسبب دفاعه المستمر عن خيار المقاومة وسلاح حزب الله في لبنان. من ذلك الموقع تقدّم رئيس الجمهورية داخل ميدان نفوذ الشيعية السياسية حين فرض على الطبقة السياسية المرسوم المتعلق بضباط ما يطلق عليه “دورة عون”.

قالت بعبدا إن المرسوم لا يحتاج لتوقيع وزير شيعي (وزير المالية)، أيّدها السراي الحكومي في ذلك حين محض رئيس الحكومة سعد الحريري توقيعه على نفس المرسوم. في الظاهر لم يتدخل حزب الله في السجال بين بري وعون، وفي المضمون أدرك الحزب أن عقدة عون في استعادة صلاحيات الرئيس التي حجّم “الطائف” مساحتها تدق أبواب نفوذ الشيعية السياسية دون حرج. وحين بدا أن النزال بات فجّا صارخا في ما أفرج عنه باسيل وتسرّب إلى العلن، اتخذ الحزب موقفا واضحا مناصرا لنبيه بري. وفي ذلك بدا تماما ما يكشف من هو أصل في الحلف مع حزب الله ومن هو فرع.

إذا ما قامت جمهورية الاستقلال على تقاطع دولي ما، وقامت جمهورية الطائف على تقاطع دولي إقليمي ما، فإن التحولات والجراحات البنيوية الكبرى الجارية في المنطقة قد تفرض على لبنان تحديثا لنظامه السياسي على نحو ما زال مجهولا
يحتاج حزب الله دائما إلى التغطية المسيحية التي منحه إياها ميشال عون منذ ورقة التفاهم الشهيرة الموقّعة في كنيسة مار مخايل عام 2006. حافظ عون على ذلك الغطاء حتى في أدق الظروف الحرجة التي واجهت الحزب. ويحتاج الحزب هذه الأيام إلى هذا التحالف مع بعبدا، ومع الصفقة الرئاسية برمّتها التي انخرط فيها سعد الحريري، للاستظلال بسقف شرعي يقيه شرور العواصف التي تنفخ فيها واشنطن، والتي قد تتأثر بها دول كبيرة أخرى في هذا العالم. لكن الحزب لا يمكن أن يخاطر بالاستقرار والوحدة داخل البيت الشيعي في هذه الأيام، فهو قاعدته وفضاؤه والأساس الذي يتحرك داخله ويتدثّر به لمقارعة الخصوم كما الحلفاء.

وفق هذه المعطيات تنتهي مسلمات الطائف بالواجهة التقليدية التي فرضت تحاصصا بات تقليديّا بين رئاسات ثلاث تنهل من روحية الوصاية التي لم يتخلّص اللبنانيون من قوانينها.

تعبّر هذه اللحظة عن حذر شديد لدى كافة التيارات السياسية عشية استحقاق الانتخابات التشريعية وفق قانون اقتراع جديد من الصعب استشراف نتائجه. يدرك ساسة البلد أنّ المشهد البرلماني المقبل غامض الملامح، بما يعني أن حكم البلد يخضع لخريطة جديدة لا تُطمئن أحدا حتى حزب الله الذي يفاخر بما يمتلكه من “فائض سلاح”.

وما بين حسابات ضيقة لذلك الزعيم أو ذاك، تضجّ خلف ذلك جلبة مثيرة في المنطقة تنذر علاماتها السورية بتبدل في التوازنات الإقليمية على نحو ستلقي بظلالها على لبنان.

فإذا ما قامت جمهورية الاستقلال على تقاطع دولي ما، وقامت جمهورية الطائف على تقاطع دولي إقليمي ما، فإن التحوّلات والجراحات البنيوية الكبرى الجارية في المنطقة برمّتها قد تفرض على لبنان تحديثا طارئا لنظامه السياسي على نحو ما زال مجهولا يسعى ساسة البلد للاهتداء إلى معالمه أو اختراع توازناته الجديدة.