قد لا يكون هناك وقت لدى بعض المعنيين في لبنان، للتفكير في حجم المخاطر التي تلوح من خلال تهديد أفيغدور ليبرمان. فإسرائيل لا تلعب في ملف النفط فقط، بل هي تلعب على كثير من الحبال اللبنانية... أبعد بكثير من «البلوك» الرقم 9. وإذا فكّر الإسرائيليون في تنفيذ تهديداتهم، فإنّ أبعادَها لن تكون اقتصاديةً فحسب، بل سياسية أيضاً، داخلياً وخارجياً. والبعض يقول: «عندئذٍ، سينقاد لبنان، لا إلى بلوكات النفط، بل إلى «مثلّث برمودا»!
 

تداعيات كثيرة وخطيرة قد يتسبّب بها موقف ليبرمان، إذا تطوَّر، وملف النفط والغاز ليس سوى جزء منها. ولذلك، لا بدّ أن يخطط لبنان لمواجهة التداعيات بكثير من الرويّة والحكمة. فالردود الحازمة التي يطلقها المسؤولون لا تكفي.

في شكل مفاجئ، وفي ذروة التأزّم الداخلي، هدّد ليبرمان بتفجير مجموعة أزمات في وجه لبنان، من خلال بوابة النفط. ولا يبدو استنفارُ الدولة اللبنانية على مستوى الحدث. فالشغلُ الشاغل لدى مسؤوليها هو «التمريك» و«النكايات» المتبادَلة. ولا بدّ من التوقف عند الأزمات التي يهدّد بها ليبرمان.

معلومٌ أنّ مساحة البلوكات الـ10 التي يستعدّ لبنان للتنقيب فيها تقارب 22 ألف كيلومتر مربع. والمنطقة التي تطمع بها إسرائيل تقارب 865 كيلومتراً، موزّعة على البلوكات الثلاثة 8 (في الدرجة الأولى) و9 (في الدرجة الثانية) و10.

لكنّ ليبرمان أعلن أنّ الحقل 9 (يقصد أنه بكامله) ليس ملكاً للبنان. وهذا معناه محاولة استدراج لبنان إلى التفاوض حول البلوكات النفطية الجنوبية الثلاثة، لتحديد «الخط الأزرق البحري» على غرار الخط البرّي. لكنّ اللافت هو أنّ إسرائيل بدأت أمس أعمال جرف عند الحدود في الناقورة، تزامناً مع كلام ليبرمان. ومعنى ذلك أنّ هناك نيّةً لفرض أمر واقع على لبنان.


واستدراج لبنان إلى مفاوضات ينطوي على مخاطر كبيرة في هذه الظروف التي تتحرّك فيها ملفات التفاوض والتطبيع بين إسرائيل وعدد من القوى العربية، بدءاً بالملف الفلسطيني وانتهاءً بقوى أخرى ليست مجاورة لإسرائيل. فلبنان ليس مؤهّلاً في ظلّ الظروف الراهنة، لفتح باب التفاوض مع إسرائيل، لأن لها مستلزمات معقّدة ولبنان ليس جاهزاً لها.


وسبق أن قام الأميركيون بوساطة شملت إسرائيل ودولاً أخرى في المنطقة حول الملف النفطي في حوض المتوسط. وقد نقلوا إلى لبنان، عبر المنسّق الخاص فريدريك هوف، تطميناتٍ إلى أنّ في إمكانه استثمار نفطه من البحر. وفي هذه الأثناء، كانت إسرائيل قد باشرت استثمار الحقول المحاذية للحدود اللبنانية، من دون انتظار إشارة من أحد، وسط شبهات بسرقة النفط اللبناني.


وعلى مدى سنوات، وفيما كان لبنان غارقاً في المناوشات بين «أكَلة الجبنة» تحضيراً لإطلاق ملفّه النفطي، لم تَصدر عن إسرائيل أيُّ إشارة توحي أنها ستعطّل العملية اعتراضاً على ما تسمّيه خرق حدودها البحرية.


هذا يعني أنّ ليبرمان يرمي اليوم إلى تحقيق أحد هدفين، أو هدفين معاً:


1- ضرب انطلاقة لبنان النفطية وتعطيلها ومنعه من دخول النادي النفطي منافِساً لإسرائيل في الشرق الأوسط.


2- البدء بالمفاوضات حول الحدود البحرية مع لبنان، من أجل بلوغ هدف أبعد، أي التفاوض حول الملف السياسي. وهذا الهدف يصبح أكثرَ واقعية مع ظهور عدد من الملامح «التسووية» و«التطبيعية» بين إسرائيل وقوى عربية، بدعم أميركي.

لكنّ الأخطر في ما قاله ليبرمان هو إعلانه أنّ لبنان «يعتدي» على حدود إسرائيل البحرية وثروتها النفطية، وهذا يستتبع ردّاً عليه. أي إنه يهدّد بتكرار نموذج 2006 ونكباته التي لم يستطع لبنان أن يعوِّضها حتى اليوم. والحروب تبدأ عادةً بحوادث صغيرة.

لا يتحمّل لبنان قيام إسرائيل بعدوان «تموز جديد» أو حتى بـ«ميني عدوان»، وهو غارق في 80 مليار دولار من الديون، وينوء تحت أعباء النزوح السوري والفلسطيني، ويحاول فيه الحكم والحكومة الخروج من النفق بأيِّ وسيلة. وقد لا تنتصر إسرائيل في عدوانها، لكنّ الخسائر اللاحقة بلبنان ستكون فادحة.

في ظلّ التهديد الذي أطلقه ليبرمان، هل تجرؤُ الشركاتُ الأجنبية التي خاطبها الوزير الإسرائيلي مباشرة، وحذّرها من «ارتكاب الخطأ»، أن توقّع عقودَها مع الحكومة اللبنانية بعد أسبوع من اليوم وأن تباشرَ التنقيب؟

الأمن هو العامل الأهم لرجال الأعمال والشركات. ويصعب دفع شركات نفطية عالمية إلى وضع غير مستقرّ أمنياً، وسط نزاع حدودي بين لبنان وإسرائيل. ولا يمكن أن تغامر هذه الشركات بأمنها.

يعني ذلك أنّ الملف النفطي في لبنان مهدَّد بالعودة إلى النقطة الصفر، خصوصاً أنّ التلزيم يشمل البلوكين 4 و9 معاً، ولا يمكن العمل في أحدهما من دون الآخر. وسيكون على لبنان إما أن يتحدّى إسرائيل بالإصرار على التنقيب (ولكن، بأيِّ شركات؟) وإما أن يتفاوض معها لترسيم الحدود البحرية.

في حال التحدّي، قد يقع الصدام الذي يحاول لبنان أن يتجنّبَه. وستدخل المقاومة على الخط من الباب الواسع، وسيكون القرار 1701 قد سقط. وعندئذٍ، يجب التفكير في كثير من المسائل، وأبرزها أنّ «حزب الله» سيعود إلى عنوان المقاومة بقوة وبلا تردّد.

اليوم، يعترف لبنان الرسمي بالمقاومة، على رغم القرار 1701، وعلى رغم انسحاب إسرائيل من الجنوب. ولكن، إذا اندلعت مواجهة حدودية بين لبنان وإسرائيل، فسيكون ذلك مبرِّراً للمقاومة لكي ترفع عنوان المشروعية من جديد. ستؤدّي المواجهة، إذا وقعت، إلى كارثة في لبنان، وإلى عملية خلط أوراق سياسية عنيفة في الداخل اللبناني. ولن يتمكّنَ لبنان من تحمّل تبعاتها.

إذاً، أيّهما أسهل للبنان: المواجهة أم وقف أعمال التنقيب؟

الخياران صعبان ومُكلفان جداً. وأما فتحُ باب التفاوض مع إسرائيل فغيرُ مضمون النتائج… ولا العواقب.

بين البلوكات 8 و9 و10 مثلث أطماع إسرائيلية، وعلى لبنان أن ينزل من «فضاء» محمرش إلى قعر البحر، حيث «مثلّث البلوكات النفطية» يتحوَّل «مثلّث برمودا»!