لم يحدث أن تخاصمت تركيا مع الولايات المتحدة الأميركية منذ انهيار السلطنة العثمانية فكيف بالانفصال. بسبب الأكراد يكاد يقع الانفصال المستحيل، بين واشنطن وأنقرة. تركيا مستعدّة للمستحيل، بسبب أكراد سوريا. لا يمكن لأنقرة تحمّل قيام «شريط كردي يمتد على طول الحدود السورية – التركية»، مهما كان الثمن الذي ستدفعه للحؤول دون هذه «الولادة غير الشرعية»، يبقى الخصام أخفّ من ثمن قيام هذا«الشريط» الذي ينتج حكماً تواصلاً واتحاداً مع «الأتراك - الجبليّين» أي أكراد تركيا.

تركيا قالت إنها مستعدة للحرب، وقد أثبتت معركة عفرين أنّها فعلاً لن تتراجع حتى ولو وقفت واشنطن بوجهها. هذا «الاتحاد الجغرافي» يؤسّس حكماً لاقتطاع حوالى ثلث تركيا، باختصار تركيا التي شكّلت «الجدار - الحديدي» الذي فصل الاتحاد السوفياتي عن أوروبا. درست أنقرة جيداً موازين القوى واخترقت الحدود السورية، أصمّت أذنيها عن اعتراض طهران ودمشق وتهديدات واشنطن، واخترقت الحدود. أنقرة لعبت ببراعة على حساب المعارضة السورية. بادلت مع موسكو إدلب بعفرين، فأرضت إيران والنظام الأسدي في وقت واحد. وهي من جهة أكّدت أنّها تضرب المشروع الكردي، ومن جهة أخرى قدّمت «هديّة» مغرية للسوريين وللمجتمع الدولي في عودة ثلاثة ملايين ونصف مليون سوري إلى سوريا. مزجت تركيا الظلم ضد الأكراد بالإنسانية مع السوريين. فخرج «كوكتيل» سياسي من أرض سوريا اللامعقولة. يبقى السؤال إلى أين سيصل الهجوم التركي؟ هل يطول ويتحوّل إلى حرب استنزاف جديدة؟ أم يؤدي النجاح السريع إلى تعميق الشريط الحدودي الجديد إلى أبعد من 30 كلم داخل الأراضي السورية؟ وماذا ستطلب أنقرة من سوريا، عندما يبدأ البحث حول توزيع الحصص النهائية من «القالب السوري» تمهيداً لإعلان السلام؟

مهما كان الهجوم التركي له أسبابه التركية الخارجة من وقائع وشروط الأمن القومي التركي، فإن كل المواقف تؤكد أنّ كل طرف يعمل لضمان أكبر حصة له من سوريا، بعيداً عن مصلحة الشعب السوري ومصير النظام الأسدي وقائده بشار الأسد.

أكبر المستجدات في الحدث السوري، والذي رافق اقتحام أنقرة بما أسمته عمليّة «غصن الزيتون»، ظهور موقف أميركي بعيد جداً عن الشلل الذي أصابه منذ تراجع «الأوبامية»، عن التدخل في الشرق الأوسط. أخيراً كشف ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأميركي بعد الإعلان عن البدء بتدريب فرقة من 30 ألف جندي سوري والكشف عن تواجد حوالى ألفي جندي أميركي في سوريا، بعد أن كانوا خمسماية جندي: «إن مهمّة الجيش الأميركي في سوريا ستبقى حسب الظروف». ترجمة هذا أنّه «لا يوجد موعد محدّد لرحيلها ولا معايير معيّنة يتمّ بها قياس مدى نجاح مهمتها».

الغموض في مستقبل الدور الأميركي لا يعادله سوى الاعتراف غير الرسمي بأنّ مشكلة سوريا «معقّدة». ما يهمّ واشنطن في كل ذلك طالما أنّها تعلم جيداً أنّ موسكو لا يمكنها اختراق الدائرة الأميركية، وأنّ التفاهم بينهما أساسي واستراتيجي، العمل على محاصرة الدور الإيراني وتخفيض حظوظه من اقتطاع ما يحلم به من الوجود في سوريا.

موسكو، وهنا التناقض الناتج عن المواقع والطموحات، يهمها التحالف مع إيران في سوريا لأنه يضمن لها وجود قوات برية تحت مختلف التسميات، تساهم في استمرار النجاحات، لأنّ سلاح الجوّ وحده لا يبني نصراً على الأرض. كذلك فإن الحلف الروسي - الإيراني يضمن نجاحات واقتطاعات استراتيجية في المنطقة. لكن كل ذلك لا يحول دون خلافات عميقة أحياناً، حول حصة كلٍ منهما من خطط إعادة البناء في سوريا. موسكو يهمّها أن تضعف إيران لأنّها كلما كانت ضعيفة نجحت في اقتطاع حصة أكبر.

أيضاً موسكو يهمّها أن تزداد حاجة تركيا لها، ولذلك كلما ابتعدت أنقرة عن واشنطن، أصبحت مضطرة للتقرّب والاقتراب منها. دائماً الضدّ يخدم ضدّه في اللعبة السورية في الوقت نفسه إذا كانت طهران وأنقرة تتقاربان في ضرورة بقاء سوريا موحّدة لأن ذلك يناسب أهدافهما الاستراتيجية في إسقاط المشروع الكردي وفي الأساس المشروع الروسي بما يتعلّق «بالفيدرالية وشعوب سوريا»، فإنّ طهران تخاف من عودة أنقرة إلى «الحضن الأميركي» مما يدفعها للاستقواء بذلك عليها.

المشهد السوري ما زال ناقصاً، لأن الموقف الأميركي لم يتبلور نهائياً. لا أحد يعرف حتى في واشنطن إلى أين سيذهب دونالد ترامب في انخراطه الجديد في سوريا لأنّ الجواب على ذلك سيجيب على الكثير من الأسئلة التي إجاباتها ستصوغ الحل في سوريا ومن ضمنه مستقبل الأكراد.