يدخل التخلي عن النأي بالنفس من قبل الرئيس الحريري مساره الإنحداري من جديد
 
نشر "حزب الله" سلسلة إعلانات ترويجية لـ"مشروع تجهيز مجاهد" على الطرقات العامة تضمنت الدعوة للتبرع لصالح المجهود الحربي للحزب (جاء في نص الإعلان: "من جهّز غازياً فقد غزا. نشكر لكم مساهمتكم – هيئة دعم المقاومة الإسلامية – مديرية منطقة بيروت")، مرفقاً بصورة مقاتل للحزب مع علم لبناني يعلو علم الحزب وأرقام الهواتف للتواصل والتبرع.
 
مرّ نشر هذا الإعلان بشكلٍ عابر لدى الأوساط السياسية بدون أي إهتمام يُذكر ، ورغم تكراره إلا أنه لا يمكن تجاهل مدى ما يحمله من ضرب لدور الدولة والجيش والشرعية ، خاصة أنه بات بعد إغراق "حزب الله" في الدم السوري يستظل بالعلم اللبناني، ويقدّم نفسه على أنه جزء من الشرعية بدعوى مواجهة "الإرهاب التكفيري"، كما يستخدم "حزب الله" الأملاك العامة ليعلن عن طلبه الدعم والتبرعات المالية لصالح مجهوده العسكري ، وهو المستمر في ضرب مبدأ النأي بالنفس على جميع المستويات.
 
التطبيع مع الأمر الواقع
 
 
إستطاع "حزب الله" فرض التطبيع مع صورته القائمة على فرض الأمر الواقع وإستثمار قدرته على بسط نفوذه الميداني في نطاق نفوذه لإضفاء صفة "شرعية" على سلوكه، ولا شك أن فئة من اللبنانيين تأثرت بهذا التوجه الذي يسلكه الحزب منذ سنوات ، ولكن ماذا لو أن فريقاً آخر من اللبنانيين فعل ما يفعلُه "حزب الله" ؟ 
 
لماذا تسكتُ الحكومة ورئيسُها على إسقاطات السلاح في الحياة الوطنية، وهل يكفي شعار أن سلاح "حزب الله" بات مسألة إقليمية لنرضى بكل ما يفعلُه الحزب داخلياً وخارجياً؟!
 
وإذا كان الحزب صادقاً في دعم الجيش اللبناني، فلماذا لا يأتي من إيران بكميات وافرة من السلاح ويقدمها للجيش عربون وطنية منتظرة؟
 
 
إستئناف حملات "حزب الله"
 
 
رغم تعهّد الرئيس سعد الحريري بأن الهجمات على المملكة العربية السعودية ومجمل إستهداف "النأي بالنفس" سيكون هو من يتصدّى له وسيحاسب عليه شخصياً، إلا أن "حزب الله" واصل حملته على المملكة وقيادتها. 
فمن الهجوم الصارخ للشيخ نعيم قاسم من طهران على المملكة العربية السعودية في لحظات تخريج عودة الرئيس سعد الحريري من باريس، وما تلاه من قصف الأمين العام للحزب المتواصل والإصرار على فرض الإتصال بنظام الأسد بمختلف الوسائل، وليس إنتهاء بجولات السياحة العسكرية على الحدود لقادة الميليشيات الإيرانية في العراق وسوريا ، تنفيذاً لمقولة إستدعاء "آلاف المجاهدين" التي أطلقها نصرالله العام الفائت.
 
 
لا يصل التحقيق في كيفية إقتحام قيس الخزعلي المنطقة الحدودية التي يستلزم  دخولها إذناً خاصاً من الجيش اللبناني وكذلك "زيارة" بقية "الضيوف" من قادة وعناصر الميليشيات الإيرانية ، أمثال حمزة أبو العباس قائد لواء الباقر في سوريا ، ما يجعل الأرض مستباحة وصورة الدولة منكّسة.
 
يعقد أمين عام "حزب الله" حسن نصرالله الإجتماعات مع الفصائل الفلسطينية ويعلن الحرب الشاملة ووضع خطط حول الملف الفلسطيني دون أي إعتبار للدولة اللبنانية وما يمكن أن يترتب على مواقفه هذه من تداعيات إستراتيجية ، خاصة أنه إتخذ إجراءات منفردة رغم الإجماع الوطني اللبناني على دعم القضية الفلسطينية في مواجهة سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه القدس.
 
يستأنف "حزب الله" هجومه على المملكة العربية السعودية على لسان رئيس رئيس كتلته النيابية محمد رعد الذي يضع الرياض في مصاف العدو الصهيوني، ورئيس مجلسه التنفيذي هاشم صفي الدين الذي إستخدم عبارات الشتم المباشرة ضد القيادة السعودية من دون أن يتصدى له أحد، وخاصة رئيس الحكومة سعد الحريري الذي سبق أن تعهّد بأن من يخرق "النأي بالنفس" فحسابه معه "شخصياً"!!
 
ومع مرور تصريح صفي الدين المسيء للسعودية دون أي تعقيب، كان الرئيس الحريري يؤكد تمسكه بالشراكة مع "حزب الله" مؤكدا "ضرورة إبقاء لبنان خارج المواجهة بين إيران والسعودية".
 
 
 
الحريري: عودة إلى سلوك ما قبل الإستقالة
 
 
في تدرّج الحريري بالعودة إلى تموضعه إلى جانب "حزب الله" يتمسك بإدامة شكره للرئيس ميشال عون على "إنقاذه" وإخراجه من أزمة صنفها الأسوأ في حياته السياسية، ولتصبح السعودية مساوية لإيران في القيمة والدور والمخاطر والمسافة السياسية.
في أكثر من محطة ساوى الحريري بين السعودية وإيران، كما فعل في حديثه للصحيفة الأميركية ، في حين بدأت تتظهر تفاصيل المشهد بأن الحريري بات في المقلب الآخر، وهذا ما عبـّر عنه وزير الداخلية السابق مروان شربل في مقابلة مع قناة الجديد يوم الأحد 7 كانون الثاني 2018 عندما رأى أن الواقع لم يتغير نتيجة إستقالة الحريري وأن السعودية لمست أنه عاد إلى ما كان عليه قبل الإستقالة، معتبراً أن النظرة للسعودية إختلفت لدى فئة محددة هي التي تقف مع الرئيس الحريري وليس لدى عموم السنة، لأنهم يعتبرون السعودية مرجعهم كما يعتبر الشيعة أن إيران هي مرجعهم.
 
وبينما يتظهر التحالف بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر، أطلق وزير الخارجية جبران باسيل نيران مدافعه الدبلوماسية الرشاشة نحو بعض السفراء العرب تحت ذريعة تدخلهم في الإنتخابات النيابية، مستهدفاً بشكل واضح سفير دولة الإمارات العربية المتحدة حمد الشامسي بعد إستضافته عدداً من القيادات السياسية.
 
 
مخاطر على الصيغة اللبنانية
 
 
سال الكثير من الحبر حول الضمانات التي رافقت عودة الرئيس الحريري من باريس وتراجعه عن الإستقالة، وقيل يومها إن فرنسا تكفلت بالحفاظ على التوازن وبمنع تحوّل لبنان إلى منصة إيرانية سياسية وإعلامية وأمنية، لكن الواضح أن حماسة باريس تأثرت بموجات البرد والعواصف، ولاحظنا أن "حزب الله" إستعاد ممارساته السابقة ، مما يجعل التذكير بهذه الضمانات ضرورياً، وإلا فلا يمكن إلقاء اللوم على المملكة العربية السعودية أو دولة الإمارات العربية المتحدة وبقية دول الخليج إذا إتخذت مواقف تضمن المصالح العربية في لبنان، مهما كان حجم التغوّل الإيراني في بلاد العرب.
 
 
يدخل التخلي عن "النأي بالنفس" من قبل الرئيس الحريري مساره الإنحداري من جديد ويلمس الجميع أنه يحتضر مع إختفائه من خطاب رئيس الجمهورية خلال إستقباله السلك الدبلوماسي وتجاهله التام من الرئيس عون في مواقفه السياسية ، وهذا يـُعيدُنا إلى مربع الأزمة الخطر القائم على الإنحياز لإيران ومحورها والسماح بإستهداف المصالح السعودية والعربية بدون هوادة ، الأمر الذي يشكل التهديد الحقيقي للإستقرار ويفتح الباب على تغييرات تضرب الصيغة اللبنانية التي لا تقبل التعديل في توازناتها، فإما عدالة وشراكة وإستقرار على أساس مشروع الدولة ، وإما غلبة وإستئثار وخراب ودمار للدولة والكيان.