يشكل لبنان، رغم هشاشته السياسية والأمنية وتعقيداته الداخلية، رقما صعبا في معادلات المنطقة وعلى خارطة اهتمام القوى الدولية. يتأكد ذلك من خلال الحرص الفرنسي على متابعة الأزمة التي استجدت إثر استقالة سعد الحريري ومخرجات مؤتمر دعم لبنان وأيضا من خلال الحرص الدولي على الاستمرار في دعم الجيش. مع ذلك، لا يشعر اللبنانيون بالتفاؤل، حتى مع بوادر تحسّن في العلاقات بين الرياض وبيروت وتأكيد السعودية في مناسبات عديدة حرصها على دعم لبنان وعدم السماح لمساعي إخراجه من محيطه العربي. فلا تكاد تهدأ أزمة حتى تندلع أخرى، من أزمة فراغ كرسي الرئاسة إلى أزمة تشكيل الحكومة ثم الخلافات المتواصلة وصولا إلى أزمة استقالة الحريري وعودته عنها إلى السجال الحالي بين ميشال عون ونبيه وبري وسعد الحريري وسمير جعجع وغير ذلك من المفاجآت التي سيأتي بها الاستعداد للانتخابات البرلمانية
 

لم يتفاءل اللبنانيون كثيرا بفتح صفحة جديدة في بداية العام الجديد، فكل المؤشّرات السياسية والاقتصادية والأمنية رفّعت من منسوب القلق العام على ما يمكن أن تشهده البلاد خلال الأشهر المقبلة.

ويلاحظ المراقبون للشؤون اللبنانية أن أجواء الإجماع السياسي التي سادت الطبقة السياسية اللبنانية إبان أزمة استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري في 5 نوفمبر الماضي فقدت الكثير من الزخم، وفتحت الباب لاحقا أمام سلسلة من الانقسامات التي قد تهدّد بقاء الحكومة نفسها.

وعلى الرغم من أن بيروت والرياض أزالتا العراقيل الشكلية التي شابت علاقات البلدين بعد أزمة الاستقالة، بيد أن الكثير من الغموض يلتف حول طبيعة العلاقة الجديدة بين السعودية ولبنان، وحتى بين السعودية وحلفائها داخل الطبقة السياسية اللبنانية.

وكانت وزارة الخارجية اللبنانية ماطلت في إعطاء موعد للسفير السعودي الجديد في لبنان وليد اليعقوب لتقديم أوراق اعتماده إلى رئيس الجمهورية ميشال عون. وقالت أوساط الوزارة إن بيروت تنتظر قبول الرياض لتعيين السفير اللبناني الجديد في السعودية فوزي كبارة والذي تم تقديم أوراقه إلى السلطات السعودية قبل تعيين الأخيرة سفيرها في بيروت. وحين وافقت الرياض وافقت بيروت.

وتعتبر دوائر قصر بعبدا أن المسألة كانت بروتوكولية لا تمس العلاقات التاريخية بين البلدين، فيما روّج مقربون للرئيس اللبناني ميشال عون، ومنهم مستشار الرئيس للشؤون الإعلامية جان عزيز، إلى إمكانية قيام عون بزيارة جديدة للسعودية لتأكيد صلابة العلاقات بين البلدين، كما تلك بين رئاسة الجمهورية في لبنان ومؤسسة الحكم في السعودية.


اهتمام دولي

يرى دبلوماسيون لبنانيون أن مسألة علاقة لبنان مع السعودية لا تتعلق فقط بالجانب الثنائي بين البلدين، بل ترتبط بالتوازنات الإقليمية والدولية التي يحتاجها لبنان للحفاظ على استقراره السياسي والأمني. ويضيف هؤلاء أن الأزمة السورية تضغط بشكل مفرط على يوميات اللبنانيين، لجهة أعباء اللجوء السوري على موارد لبنان واستقراره الاجتماعي، ولانخراط البلد من خلال حزب الله في أتون الحرب في ذلك البلد، ولتأثر لبنان المباشر بأي مآلات جيواستراتيجية قد تنتهي إليها التسويات والجراحات في سوريا، وبالتالي فإن العلاقة مع الرياض هي ضرورة من ضرورات المواكبة العربية للبنان.

وتكشف مراجع أمنية لبنانية عن أن البلد يستفيد من مظلة دولية تسعى إلى حمايته من شرور البركان السوري. وتقول المراجع إن الأجهزة الأمنية الكبرى في العالم على تواصل دائم مع الأجهزة اللبنانية من ضمنها عملية تبادل معلومات مكثفة لحماية البلد من أي اختراق قد ينقل خطر تنظيم داعش إلى الداخل اللبناني.وتلفت المصادر إلى أن تحرّك فرنسا مؤخرا لتنظيم مؤتمر أصدقاء لبنان في باريس، على أن تليه مؤتمرات أخرى داعمة للبلد، هدفه تكريس اهتمام فرنسا والمجتمع الدولي بوضع لبنان وبعث رسالة قوية لكافة القوى الإقليمية تطالب باحترام الخطوط الحمر التي تضعها العواصم الكبرى لمنع العبث بالسلم الأهلي الداخلي في هذا البلد.وتلفت مصادر برلمانية لبنانية إلى إصرار الإدارة الأميركية على الاستمرار في تقديم الدعم العسكري للجيش اللبناني على الرغم من مزاعم إسرائيلية تحدثت عن اختراق حزب الله للجيش وعلى الرغم من تقارير أميركية سابقة أشارت إلى الهيمنة التي يمارسها الحزب على النظام السياسي اللبناني برمته.

المخاوف تدور حاليا حول جدارة النظام السياسي اللبناني في التأقلم مع المتغيرات التي تفرضها التحولات الإقليمية الكبرى
وتؤكد مصادر الجيش أن عقد المؤتمر الدولي المقبل لدعم الجيش في روما يؤكد تعويل المجموعة الدولية على المؤسسة العسكرية اللبنانية لحماية لبنان وتثبيت الدولة كمرجع وحيد للبنان واللبنانيين لدى المراجع الدولية.

ويرى خبراء في شؤون الأمن أن فرنسا ستقود في المرحلة المقبلة جهدا دبلوماسيا دوليا لمكافحة الجماعات المسلحة، بحيث ينزع المجتمع الدولي أي غطاء سياسي عن أي جماعة خارج إطار الجيوش الرسمية، وأن لبنان وسوريا والعراق واليمن وليبيا هي الدول التي ستطالها قرارات أممية ضد السلوك الميليشياوي. ويضيف الخبراء أن دعم الجيش اللبناني وتقويته يصبان في هدف إعداد لبنان للانتقال إلى مرحلة ما بعد الميليشيات.

غير أن المخاوف تدور حاليا حول جدارة النظام السياسي اللبناني بالتأقلم مع المتغيّرات التي تفرضها التحولات الإقليمية الكبرى، لا سيما تلك المتعلقة بالشأن السوري وتلك المرتبطة بتحول لبنان إلى بلد نفطي بعد موافقة مجلس الوزراء اللبناني على تلزيم مربعين للتنقيب عن النفط في المياه اللبنانية. وتعتقد أوساط سياسية في لبنان أن السجال الحالي بين رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب حول مرسوم ضبّاط ما يطلق عليه “دورة عون”، لا يتعلق فقط باحتجاج رئيس مجلس النواب نبيه بري على تغييب توقيع وزير المالية الشيعي حسن خليل عن المرسوم، بل يرتبط بتفسير المواد الدستورية لاتفاق الطائف كما بدور الطائفة الشيعية داخل النظام السياسي، والذي يسوّق بري لمسألة الدفاع عنها.

وفيما يسيل حبر كثير حول خطط الرئيس عون لاستعادة دور رئاسة الجمهورية في قيادة البلد وسحب ذلك من وظيفة رئيس مجلس النواب الذي استعان بالوصاية السورية ثم بفائض القوة عند حزب الله لمصادرة قراري رئاستي الجمهورية والوزراء بعد “الطائف”، تقلل أوساط بعبدا من هذا البعد البنيوي التأسيسي للنظام اللبناني وتعتبر أن لسجال المرسوم أغراضا أخرى.

وتجمع الأوساط المتابعة على اعتبار المناكفات الداخلية جزءا من ورش الإعداد للانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها في مايو المقبل، وترى في الجدل بين عون وبري حفلة صخب هدفها رسم التحالفات المقبلة وخوض انتخابات معقدة وفق قانون الانتخابات الجديد. غير أن بعض المراقبين يرون أن الخلاف حول مرسوم الضبّاط قد ينسحب على قطاعات أخرى بالإمكان استخدامها كلما كان هناك تماس بين وزراء التيار الوطني الحر بزعامة وزير الخارجية جبران باسيل وحركة أمل بزعامة بري. ويضيف هؤلاء أن تصاعد موجة الإضرابات داخل قطاع الكهرباء وتوقف بعض الشركات الخاصة عن تقديم خدماتها قد لا يكون بعيدا عن أجواء التوتر بين عون وبري.


امتحان الانتخابات

يرى معنيون بشؤون الانتخابات أن المشهد الانتخابي شديد الارتباك وأن التحالفات لا تخضع للتقسيم التقليدي الذي ميّز ما بين معسكري 8 و14 آذار في السابق، وأن التحالفات قد تكون مختلفة وحتى متناقضة من دائرة إلى أخرى.

الانتخابات في لبنان من شأنها أن تحدد التوازن السياسي المقبل
فمع عزم تيار المستقبل، بقيادة سعد الحريري، التحالف مع التيار الوطني الحر، بقيادة جبران باسيل، يخشى حزب القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع من انقلاب يقوده الثنائي الحريري- باسيل برعاية الرئيس ميشال عون ضد “القوات”، بما يطيح بـ“ورقة النوايا” التي وقعت بين جعحع وعون، والتي سبقت قرار الحريري دعم ترشح عون للرئاسة. وضمن هذا المشهد تتحرك القوى السياسية اللبنانية للتموضع داخل المشهد الانتخابي دون أن يشكل ذلك قطيعة مع توليفة العهد الحالي. ووفق هذه المعطيات تنشط زعامات مثل وليد جنبلاط وسليمان فرنجية ونجيب ميقاتي وأشرف ريفي وغيرهم لنسج تحالفات مناطقية تثبت حصصهم داخل البرلمان المقبل. وفيما يفترض أن يتم ترتيب اللوائح والتحالفات بشكل جلي في مارس المقبل، فإن الضبابية التي يثيرها قانون الانتخابات الجديد تتيح هامشا كبيرا من المفاجآت التي من الصعب رصدها، حتى من قبل أكثر خبراء الانتخابات دقة.

ويرى مراقبون أن الانتخابات المقبلة ستحدد الأحجام التي سيرتسم وفقها التوازن السياسي اللبناني المقبل، والذي من المفترض أن يواجه التحديات الإقليمية المقبلة. ويضيف هؤلاء أن حزب الله الذي عمل على إخراج قانون جديد للانتخابات لا يمس بحصته، سيكون مستفيدا من الاختراقات التي سيحققها داخل الطوائف اللبنانية الأخرى بسبب هذا القانون.

لكنّ أوساطا سياسية لبنانية تقلل من أمر ذلك وتعتبر أن حزب الله سيكون تحت المجهر الدولي وأن للحزب مصلحة كبرى في التظلل بالنظام السياسي اللبناني والانخراط داخله لا الاستقواء عليه. ويضيف هؤلاء أن كلام أمين عام الحزب حسن نصرالله عن التحضير لحرب كبرى هو وليد قناعة داخل الحزب بأن موجة دولية معادية للحزب والميليشيات الإيرانية في المنطقة قادمة، وأن إمكانات أن تكون الحرب أحد خيارات هذه الموجة أمر وارد على النحو الذي يتطلب الاستعداد لهذا الاحتمال دون استدراجه كما يتطلب مرونة وانخراطا سياسيا كاملا داخل المؤسسات الدستورية للدولة اللبنانية.

ولفتت الأوساط إلى أن ابتعاد حزب الله عن السجالات السياسية الداخلية وتهدئة خطابه نحو الخارج التزاما بسياسة النأي بالنفس هو سلوك يريد الحزب من خلال تبريد موقعه داخل لبنان بالتوازي مع استمرار دوره الساخن داخل الساحة السورية.